الكثير من الناس لا يفهمون كيف تغيرت الأحكام الشرعية الإسلامية بين النص القرآني وما أقره الفقهاء في القرن الثاني الهجري، حيث صرنا أمام تناقضات كبيرة ومحيرة بين المضامين القرآنية ومضامين الأخبار التي اعتبرت "أحاديث" نسبت إلى النبي محمد بمعايير ظنية، لكنها لم تدون إلا بعد حوالي 200 سنة من عصر الدعوة النبوية.ولا شك أن من قام ببذل بعض الجُهد في النبش في أصول الأحكام وفي أسلوب المفسرين في قراءة آيات النص المؤسس الذي هو القرآن، سيلمسون بسهولة مقدار الاضطراب الموجود في مواقف الفقهاء التي مالت في مجملها ـ باعتماد التأويل المتعسف وصناعة الأخبار ـ نحو التعسير والتضييق عوض السماحة والانفتاح الذي تميز بهما النص القرآني."لا وصية لوارث" فكيف تم تعطيل آيات "الوصية" مثلا الواردة في القرآن لصالح خبر ضعيف يقول "لا وصية لوارث"، وكيف تم "نسخ" آيات حرية المعتقد وتعويضها بخبر عنيف يقول "من بدل دينه فاقتلوه"، وكيف انقلبت الآية "ادعوهم لآبائهم" إلى خبر يقول "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، وكيف تحولت شعيرة الصيام من شعيرة اختيارية في الآية "وعلى الذين يُطيقونه فدية طعام مسكين" والآية "وأن تصوموا خير لكم" إلى جعل الصيام فريضة إلزامية خلقت مناخا من العنف والتوتر في بلدان المسلمين؟ وكيف تحولت آية تتعلق باليتامى إلى آية تبيح للرجال نكاح أربع نساء إضافة إلى الإماء والجواري ؟ وكيف اختفت بقية الآيات التي تضع شرطا تعجيزيا أمام تعدد الزوجات "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة" و"لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم" ؟ وكيف تحولت آيات قرآنية لها سياق خصوصي مرتبط بمرحلة صراع النبي مع قريش إلى قرار إلهي دائم يدعو إلى إعلان الحرب على العالم، وقد سماه الفقهاء "جهاد الطلب" واعتبروا أنه يدعو إلى "طلب الكفار في عقر دارهم" والهجوم عليهم واسترقاق نسائهم وأطفالهم، بل إنهم اعتبروا الجهاد "فريضة" إن تركتها الأمة "وقعت في الذل والهوان"، مما جعل "العزة" في غزو بلاد الغير؟ وكيف تم تغيير معنى الآية "قِرنَ في بيوتكن" من معناها الأصلي الذي تأمر فيه نساء النبي بالقعود في البيت إلى معنى عام فقالوا "غير أنها تنطبق على سائر نساء المسلمين" ثم "أجمعوا" على ذلك.هذه الأسئلة وكثير غيرها تعكس في الواقع الطريقة التي تأسست بها منظومة الفقه الإسلامي التي انغلقت على نفسها بالتدريج، لكي تصير أشبه بالقلعة التي لا ينفذ إليها الهواء والشمس، والتي صارت هي "الإسلام" أو "الشريعة الإسلامية"، والتي استجابت في الواقع لحاجات دولة الخلافة في العصر العباسي الأول، كما توافقت مع رغبة الفقهاء في ممارسة الوصاية على المجتمع الإسلامي."فقه جديد"وقد اعتمدت عملية البناء هذه في تكريسها لمنظور انغلاقي 5 آليات خطيرة:صناعة الأخبار ونسبتها إلى الرسول بعد مدة طويلة من وفاته، وهو ما سمح للفقهاء بالتخلي عن آيات قرآنية واضحة الدلالة، لكنها لا تلبي حاجات الدولة أو رغبة الفقهاء في التعسير والتشديد، وقد انطلقت هذه العملية مع الشافعي الذي قام بتكريس حجية "خبر الآحاد" مرجعية للتشريع بجانب القرآن، لكي تأتي بعد ذلك مرحلة قام فيها الفقهاء بوضع الحديث فوق القرآن نفسه من خلال القول "السنة أسبق من القرآن".اختراع "الناسخ والمنسوخ" باعتباره آلية تسمح بالتضحية بآيات قرآنية في غاية الانفتاح والسماحة لصالح أخرى أكثر شدة ووقعا بسبب ارتباطها بسياق محدد يتم تجاهله بعد ذلك وفق القاعدة الفقهية الخطيرة: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".التأويل المتعسف والمبالغ فيه للآيات من أجل جعلها تؤدي معنى معينا وإن كانت لا تفيد ذلك المعنى، ومن المهازل الكبرى في ذلك القول إن "العدل" بين الزوجات في صورة النساء إنما يُقصد به العدل المادي في النفقة وليس العدل العاطفي والجنسي، ومن غيرها أيضا قولهم إن الآية "وعلى الذين يطيقونه" تعني في الحقيقة "لا يطيقونه"، وذلك بهدف إلغاء الاختيار وفرض الإلزامية المطلقة أو أنها تعني المسنين والشيوخ والعجزة، بينما لا تحتمل الآيات أن نلوي عنقها إلى هذه الدرجة، وكمثل تفسير الآية "واللائي لم يحضن" بأن المقصود بها الطفلات الصغيرات اللواتي لم يأتيهن بعد دم الحيض مما أدى إلى كارثة اغتصاب الطفلات إلى اليوم.آلية "الإجماع" التي يتم من خلالها تحصين الرأي الفقهي وحمايته من النقد، وتجعل الرأي المخالف في عداد المحظور، وتسمح بالتنميط والتقعيد وفرض الرأي الواحد الرسمي واعتبار ما سواه "رأيا شاذا خارج إجماع علماء الأمة".اعتماد السلطة السياسية للدولة في جعل معنى معين يسود بقوة الغلبة والأمر الواقع، وبهذا صارت قراءات الفقهاء وتأويلاتهم وتخريجاتهم الغريبة تكتسي طابع "القانون الرسمي" الذي يتم التشريع والحكم من خلاله مما يمنحه طابع الإلزام ويجعل ما سواه من القراءات منبوذا مرفوضا وأحيانا يعاقب عليه.هكذا وصلنا الإسلام من خلال المنظومة الفقهية بشروحها وحواشيها وضوابطها وقواعدها التي اكتست عبر القرون طابعا قدسيا فصارت جزءا من الدين نفسه بينما هي عمل بشري قابل للنقد وإعادة النظر.وفي عصرنا الحالي يلاحظ أن الكثير من عناصر هذه المنظومة الفقهية تم تركها وهجرها بالكامل في ظل الدولة الحديثة، بسبب عدم مطابقتها للمصلحة ولواقع الناس ولمنطق وفلسفة الدولة العصرية، بينما ما زالت هناك عناصر أخرى من القراءات والتفاسير القديمة ما زالت تتسبب في الكثير من الصراعات والقلاقل، كما تؤدي إلى عرقلة تطور المجتمعات الإسلامية، مما يعني بوضوح الحاجة إلى "فقه جديد" يعيد القراءة وفق روح العصر الذي نحن فيه، كما استجابت القراءات السابقة لمنطق عصرها.