للمرة الأولى منذ سنوات خلت، لم تضطر الحكومة التونسية إلى إقرار قانون ماليّ تكميليّ لسد ثغرات تعبئة الموارد، وهذا يعني أنه سيتم إقفال ميزانية 2024 دون أيّ تكبد مشاق يذكر مما يمثل بوادر نجاح ولو بشكل نسبي لسياسة التعويل على الذات وترشيد المديونية.والواضح أنّ هذه المؤشرات هي حصيلة التمشي الإصلاحي الذي انطلق من تشخيص دقيق لمسببات الأزمة المالية والاقتصادية التي تخبطت فيها البلاد خلال أكثر من عقد من الزمن عبر الاتكاء الكامل على الدين الخارجي وهدر الموارد المالية للدولة في انتدابات عشوائية على قاعدة المحسوبية والولاء إضافة إلى تفشي الفساد المالي والإداري خلال حقبة الحكم الإخواني وكان من الضروري وفق مسار 25 يوليو أن يتم تناول المسألة وفق منهجية تجاوزية وعقلانية في ذات الوقت. وبالفعل تزامن التوجه الجديد القائم على التحكم في الإنفاق العمومي مع سياسة مرحلية تقوم على تراكم الإصلاحات، وعدم استعجال النتائج مع تجنب التوقيع على اتفاقيات القروض التي تنجر عنها كلفة اجتماعية باهظة، على غرار تلك التي يسندها صندوق النقد الدولي بمشروطية مجحفة تذهب إلى حد رفع الدعم والتفويت في المؤسسات العمومية. كانت نتائج ذلك حسب عدد من خبراء الاقتصاد في تونس وحتى في عدد من وكالات التصنيف الائتماني الدولية بداية حلحلة أولية للإشكالات المزمنة والمتراكمة ومؤشر قدرة على إدارة المخاطر المالية قد يؤتي أكله على المدى المتوسط والبعيد. فعلى الرغم من أن تونس سددت أكثر من 3 مليارات دينار بعنوان الدين الخارجي، فإن رصيدها من العملة الصعبة ظل مستقرأ قياسا إلى تطور مداخيل الموسم السياحي والموارد المتأتية من تصدير زيت الزيتون وكذلك تحويلات التونسيين بالخارج. أما من ناحية التوازنات المالية لخزينة الدولة فإن مؤشرات واعدة بدأت في البروز من بينها تسجيل فائض نسبي بالخزينة العامة، وارتفاع الموارد الجبائية بنسبة 12% وهو رقم لم تبلغه تونس منذ عقود،وهو متأت من تقلص نسبة التهرب الضريبي نتيجة تسهيلات وحوافز من ضمنها تخفيض ضريبة الربح على الشركات من 25 إلى 15%. وما يلاحظ أيضا هو تعافي المنظومة البنكية المحلية وقدرتها على تمويل الاقتراض الداخلي للدولة بشكل جسم الخيار السيادي بالتقليص من الدين الخارجي والتحكم في نزيف العملة الصعبة. ويتعزز الاتجاه حاليا إلى أن تكون موازنة 2025 تواصلا مع هذه الإصلاحات الجوهرية القائمة على الملائمة بين الدولة الاجتماعية الراعية وبين تشجيع المبادرة والاستثمار مع سعي متواصل للتعويل على الذات، وتحفيز القطاعات الوطنية ذات الأهمية الإستراتيجية كالفلاحة والسياحة والطاقة والتي تعول عليها تونس كرافعة للبناء الاقتصادي الجديد بالإضافة طبعا لتوجه ثابت نحو مجال الطاقات البديلة والمتجددة ذات الأهمية المستقبلية على نطاق دولي شامل. هل هي بداية انفراج اقتصادي طال انتظاره في تونس ؟ الواقع يقول كما الأرقام أن البوادر على نسبيتها مشجعة، غير أن الكثير ما زال أمامنا الحديث عن التعافي الاقتصادي الكامل. فنحن أساسا في وارد عملية صمود في إدارة أزمة متفاقمة. والتعويل على الذات كمبدأ سيادي ليس نزهة بل مسيرة صبر وتضحية وتركيم متدرج لشروط النجاح.(المشهد)