لطالما رفضت الرد بشكل مباشر على السؤال التقليدي: "من هو كاتبك المفضل؟" لسبب بسيط، يتجلى في ثقتي بأن مسار القراءة بالغ التعقيد، ويصنعه ذلك التلاقي بين سطور كل من قرأت لهم، مع ميل طبيعي لأسماء بعينها، تشعر في قرارة نفسك أنها الأقرب لرؤيتك الشخصية للكتابة، أسلوبا ومضمونا...
وفي حالتي، يحتل اسم ماريو فارغاس يوسا مكانة بارزة بين هذه الأسماء.
إذن فقد رحل ماريو، عن عمر يناهز الـ89، بعدما ترك أعمالا متعددة ومتنوعة، استطاعت بشخصياتها وفضاءاتها السردية نسج علاقة حميمة مع قراء من جميع أنحاء العالم، لما تحفل به كتابات ابن البيرو من قدرٍ عال من الحيوية والتجريب، تمنح سرده عمقا وتفردا، أشاد به المتابعون كما النقاد.
أول ما قرأت له كان رواية "من قتل بالومينو موليرو"، فكانت بمثابة بوابة سحرية فتحت أمامي عالمًا يمزج بين والخيال والأبعاد النفسية الغامضة. لم تكن أفضل أعماله بالتأكيد، لكنها مثلت بالنسبة لي شكلا آخر من أشكال الرواية البوليسية: هل "يجب" أن تنتهي كل هذه الأعمال بمعرفة الجاني، كما عودتنا على ذلك الأعمال الروائية والسينمائية الغربية، أم أن تجسيد الواقع أعقد من ذلك، والخير لا ينتصر دائما، وقد يفلت الجناة بأفعالهم المشينة؟
كانت تلك نقطة تحولٍ في ذائقتي؛ مع اكتشافي قلمًا يُجيد التحليق (أو التلاعب؟) بين التفاصيل السياسية والاجتماعية، فيصبح القارئ متورطًا في الأحداث، شعوريًا وفكريًا. ومنذ ذلك الحين، لاحقت باقي أعماله، المترجمة إلى العربية أو الفرنسية، مستمتعا بالتنقل بين حيوات أبطاله التي عكست، في آن واحد، همومًا إنسانية وخصوصيات لاتينية بامتياز.
الجرأة
تميز أسلوب ماريو بالجرأة في مقاربة الموضوعات الصعبة، من نزاعات السلطة وتناقضات الهوية، إلى تقاطعات الحب والسياسة، وصولًا إلى سرد ما وراء السطح الاجتماعي من صراعات دفينة وعقد تاريخية متوارثة.
دفعتني فرادة أعمال البيروفي إلى مواصلة الإيمان بجدوى الكتابة، مع دفعه نحو الانصهار الكامل في عوالمه، والمساءلة الدائمة للواقع. أضف إلى ذلك أن يوسا قدم دوما أعمالا مبهرة في تقنياتها السردية واستفادتها المطلقة من انفتاح جنس الرواية على مختلف الأجناس الإبداعية الأخرى، وبالتالي كسر كل الأنماط المألوفة أو الجامدة.
ما زلت أذكر كيف أسرني مثلا في روايات "المدينة والكلاب" و"البيت الأخضر"، و"حديث في لاكاتيدرال" حيث تنساب الشخصيات وترتبط مصائرها بمعمارٍ سرديٍ معقّد، ولكنه في الوقت ذاته لا يخلو من سلاسةٍ آسرة، كما أضحكني في "بنتاليون والزائرات" عندما دس الرسائل السياسية المبطنة وسط جو مفعم بالضحك والفكاهة، وبلغ تفاعلي مع شخصيات رواية "شيطنات الطفلة الخبيثة" حد الغضب من الشخصية الرئيسية، بما يدل على قدرة المبدع على رسم شخصيات تكاد تتجاوز في عمقها.
ربما لا يقلّ صخب مسيرة يوسا السياسية عن جذوة إبداعه الأدبي؛ وقد قرأت تفسيرات وتحليلاتٍ كثيرة حول تقلباته بين اليمين واليسار، واتّهامات بالانتهازية أو الضبابية الأيديولوجية. لكنني بصراحة لم أكترث كثيرًا بتلك الآراء؛ فمن ناحيتي، لطالما كنت حريصًا على أن أفصل بين الأديب ورحلته مع الكلمة، وبين مساره السياسي.
اعتبرتُ أن الكاتب، في نهاية المطاف، خاضعٌ لتجربة شخصية لا بد أن تنعكس على رؤيته، وقد تتطور تلك الرؤية أو تتراجع حسب الظروف والتحديات. ما يهمّني أولًا وأخيرًا هو التزامه بالكتابة، الكتابة على النص والتعبير بصراحة عن أفكاره، سواء اتّفقت معها أم خالفتها، وهو ما ينطبق بدرجة أولى على تجربة ماريو.
فرادة أدب يوسا في نظري، هي ما جعلتني أُفضّله على أسماء لاتينية أخرى، أبرزها طبعا غابرييل غارسيا ماركيز صديق ماريو "اللدود". لكلٍّ من هؤلاء بصمته الفريدة، ولا أعني برأيي الانتقاص من باقي التجارب، لكن مغامرات يوسا في توظيف التقنيات السردية المتقدّمة، دون أن يفقد دفء المشاعر ولا نبض الواقع هي ما شدتني إليه أكثر. وفي كل مرة أخوض رحلةً في إحدى رواياته، أجد نفسي منخرطًا في تجربةٍ وجوديةٍ ممتعة، يختلط فيها التاريخ بما هو شخصي، والسياسي بما هو عاطفي، فتتشكل أمامي لوحة أدبية ثرية.
عندما استيقظت يوم الاثنين على خبر وفاته، شعرت بأن رحيله سيخلف فراغا كبيرا في نفسي، لكن نظرة على رف مخصص لأعماله في مكتبتي، أعادت لي الثقة في جدوى الأدب، القادر على تجاوز حدود الزمان والمكان، وتحقيق حلم الخلود لمبدعيه، رمزيا على الأقل.