يواجه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، عاصفة من الانتقادات من معارضيه وحلفائه في الحكم على السواء، لما وُصف بضعف الردّ العسكري على أكثر من 100صاروخ وقذيفة أُطلقت من قطاع غزة، ردا على وفاة الأسير خضر عدنان بعد إضراب عن الطعام استمر 86 يوما.وعلى الرغم من أنّ الردود المنضبطة من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي خلال جولة التصعيد الأخيرة كانت متوقعة، إلا أنّ هذه الانتقادات، على اختلاف مآرب مُطلقيها، تعكس إلى حدّ بعيد طبيعة الأزمة المركبة التي يواجهها نتانياهو. بل يمكن القول إنّ هذه الأزمة في حدّ ذاتها، أفرزت أبرز العوامل التي جعلت نتانياهو مضطرًا لابتلاع السكين على الحدّين؛ انتقادات داخلية حادة، وأضرار في معادلة الردع أمام قوى خارجية تواصل الاستعداد لجولات قادمة من المواجهة قد تمتد إلى أكثر من جبهة.فمن جهة، يركز نتانياهو على إيجاد مخرج آمن لتهدئة الأزمات الداخلية قبل نهاية مايو الجاري، بطريقة تكفل عدم الإطاحة بحكومته. ولتحقيق ذلك، يعطي الأولوية لتمرير الميزانية العامة، حتى ولو اقتضى الأمر تأجيل خطة "الإصلاح القضائي" التي تثير اتهامات المعارضة للحكومة، بالسعي لتقويض السلطة القضائية واستقلالها.وقد تزامن الردّ الفلسطيني على وفاة الأسير عدنان، الثلاثاء الماضي، مع استئناف الكنيست أعمال دورته الصيفية، بعد عطلة لمدة شهر، فشلت خلالها المفاوضات بين المعارضة والحكومة في التوصل إلى حل وسط بشأن خطة التعديلات القضائية، بل وتزايدت التوترات الداخلية مع احتكام كل من المعارضة وأنصار الحكومة إلى الشارع، في تظاهرات حاشدة أسبوعيًا.وسيكون نتانياهو في سباق مع الزمن لتمرير ميزانية لمدة سنتين، تبلغ نحو تريليون شيكل، من خلال قراءتين في الهيئة العامة للكنيست قبل الموعد النهائي في 29 مايو، أو المخاطرة بالتسبب في حل تلقائي للكنيست، وإجراء انتخابات مبكّرة. ولكي ينجح في ذلك، فهو يسعى للجمع بين متناقضات يصعب أن ترضي مختلف الأطراف.فهناك أزمة داخل الإئتلاف الحكومي، بسبب رفض شركاء الليكود من أحزاب الحريديم والصهيونية الدينية حتى الآن، معادلة الرشوة المطروحة من قبل نتانياهو، والقائمة على تأجيل معظم رزمة التعديلات القضائية، إلى ما بعد تمرير الميزانية، والاكتفاء بتمرير تعديلات محدودة، مثل خفض سن الإعفاء للحريديم من الخدمة العسكرية، مقابل وعود سخية بتخصيص ميزانيات واسعة لتمويل تعليم الحريديم والمؤسسات الدينية، وتحسين ظروف المستوطنين في الضفة الغربية.وفي حالة تحقّق أفضل سيناريو يسعى إليه نتانياهو، وهو قبول أحزاب الائتلاف باقتراحاته لتمرير الميزانية، فإنه سيؤدي في المقابل إلى تأجيج التوترات مع المعارضة وتوسيع احتجاجاتها، وربما امتداد الغضب إلى أوساط المؤسسة العسكرية، لأنّ ثمن دعم شركاء نتانياهو، سيكون التزامه أولًا بتمرير رزمة التعديلات القضائية خلال دورة الكنيست الحالية، وثانيًا تضخّم الميزانية العامة بطريقة ستؤدي إلى إضافة بعد جديد لتوسيع احتجاجات المعارضة.أما الأولوية الثانية بالنسبة للحكومة الإسرائيلية، فهي التركيز على توسيع العمليات العسكرية للقضاء على مجموعات المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، مع محاولة الحفاظ على الفصل ما بين ساحات المواجهة. وقد نقل الإعلام الإسرائيلي عن مصادر أمنية إسرائيلية عقب اغتيال 3 شبان في نابلس صباح الخميس 4 مايو، أنّ الجيش الإسرائيلي يجهّز لعملية عسكرية استباقية واسعة النطاق في الضفة الغربية.ويبدو أنّ المستويات الأمنية الإسرائيلية، تأخذ بعين الاعتبار أيضًا أنّ الضفة الغربية، وخصوصا مدينة القدس، سوف تبقى ميدان التصعيد خلال الأسابيع القليلة المقبلة. فالفلسطينيون على جانبي ما يسمى "الخط الأخضر"، يستعدون لإحياء ذكرى النكبة في 15 مايو، التي تشكل حافزًا لتصعيد العمليات ضد أهداف إسرائيلية.أما اليمين الإسرائيلي المتطرف، ومن ضمنه ممثّلوه في الإئتلاف الحاكم من حزبي الصهيونية الدينية والقوة اليهودية، فهو يستعد لتحويل إحياء ذكرى احتلال الشطر الشرقي من القدس عام 67، وخصوصا مسيرة الأعلام الإسرائيلية السنوية في 19 مايو، إلى مناسبة لاستعراض فرض "السيادة" الإسرائيلية على "القدس الموحدة". ويشمل ذلك تصعيد محاولات اقتحام البلدة القديمة خلال المسيرة، وتنظيم مسيرات استفزازية مماثلة في مناطق فلسطينية أخرى، بما يعيد إلى الأذهان المواجهة الشعبية والعسكرية التي اندلعت على خلفية تنظيم هذه المسيرات في مايو 2021.وعلى الرغم من هذه العوامل التي ترجح ميل نتانياهو للأخذ بتوصيات المؤسستين العسكرية والأمنية، بتأجيل المواجهة الواسعة مع قطاع غزة إلى لحظة تضمن تحقيق أعلى قدر من السيطرة الأمنية على الأوضاع في الضفة الغربية، والاستعداد لخيار عسكري حاسم ضد قطاع غزة، يتضمن توجيه ضربة مباغتة قد تبدأ باغتيالات لقيادات فلسطينية، وتؤدي إلى إضعاف القدرات العسكرية للفصائل الفلسطينية، واستنزاف مخزونها من الصواريخ والقذائف.سوف يبقى الاستعداد لهذا الخيار العسكري مدرجًا على أجندة الجيش الإسرائيلي، في محاولة لاستعادة معادلة الردع التي كان تآكلها موضع انتقاد للسياسة الأمنية لحكومة نتانياهو، ولا سيما ما اعتُبر ردًا ضعيفًا على إطلاق الصواريخ من قطاع غزة، ليس من أحزاب المعارضة وحسب، بل وكذلك من شركاء نتانياهو، من أمثال الوزيرين المتطرّفين، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير.ويضاف إلى العوامل التي تجعل من الصعب استبعاد خيار العدوان الواسع على غزة خلال الفترة القادمة، الضغوط التي تواجه نتانياهو من الرأي العام الإسرائيلي، الذي يشهد مزيدًا من الانزياح نحو التطرف في التعامل مع الموضوع الفلسطيني، وحالة الغضب في أوساط سكان المستوطنات في محيط قطاع غزة الذين تعرّضوا إلى 104 صواريخ وقذيفة أطلقتها الفصائل الفلسطينية خلال ساعات في وضح النهار، وقوبلت بقصف إسرائيلي ليليّ لساحات ومواقع مخلاة.وقد أظهرت نتائج استطلاع إسرائيلي أنّ 43% من الإسرائيليين، يؤيدون شنّ عملية عسكرية ضد قطاع غزة، فيما يعارض 34% هذه الخطوة. ووفق الاستطلاع الذي أوردته قناة "كان" الإسرائيلية بعد موجة التصعيد الأخيرة، فإنّ 42% يعتقدون أنّ حكومة لابيد - بينت السابقة، تعاملت بشكل أفضل مع القضايا الأمنية، فيما قيّم 71% أداء حكومة نتانياهو بالسيّىء.في المقابل، يرى الفلسطينيون أنّ سياسة الحكومة الإسرائيلية تعزز وحدة الساحات بدلًا من فصلها، خصوصا وأنها تستهدف عناوين تُعتبر موضع إجماع في أوساط الفلسطينيين كافة، فضلًا عن أبعادها ذات التأثير على المستوى العربي، مثل استهداف القدس والمسجد الأقصى، وتوسيع الاستيطان، وهدم المنازل، والمساس بحقوق الأسرى والأسيرات، وعمليات الاغتيال والإعدامات الميدانية.وهو ما يعني أنّ الفصل الميكانيكي بين الساحات، لم يعد سياسة يمكن الرهان على استمرارها، وأنّ ما حدث في المواجهة الأخيرة مع قطاع غزة، وتوسيع عمليات استهداف المجموعات المسلحة في الضفة الغربية، والاستفزازات المرتقبة مع الاقتراب من موعد مسيرات الإعلام الإسرائيلية، إنما تراكم كل العوامل التي ستدفع باتجاه توحيد الساحات في مواجهة أشد عنفًا، وربما أقرب ممّا يتوقعه البعض.ولا يقتصر هذا التقدير على الأوساط الفلسطينية، إذ تشير وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى أنّ تقديرات المنظومة الأمنية الإسرائيلية، تعتبر أنّ جولة القتال المقبلة مع غزة ليست بعيدة. وترى أنّ السؤال الأهم، هو هل ستنجرّ إسرائيل إليها رغمًا عنها، وبردّ ضعيف، مثلما حدث في الجولة الأخيرة، أم إنها ستبادر لبدء معركة واسعة يوظفها نتانياهو للهرب من أزماته الداخلية المتفاقمة، حتى ولو امتدت إلى أكثر من جبهة؟ (المشهد)