لا شك في أننا نعيش حاليا عصر التبسيط والتلخيص والإيجاز، وهو ما أملاه اللهاث الذي يطبع كل مناحي حياتنا اليوم. يصارع الجميع عقارب الساعة، في معركة خاسرة نعلم مسبقا هوية المنتصر فيها. لا أحد يريد قراءة رواية كلاسيكية تتجاوز في طبعتها الكاملة ألف صفحة، فهناك المئات من الفيديوهات على "يوتيوب" التي ستلخص أحداثها وربما بنيتها السردية وتطور شخصياتها ونبذة عن كاتبها في دقائق فقط. ألا يعني ذلك حرمان بعض القراء من متعة المطالعة وتذوق كل كلمة وكل جملة وكل فقرة؟ لا يهم، ما دام الأساسي عند البعض هو "الظهور" بمظهر العارف بكل شيء، بغض النظر عن التفاصيل، وهو ما انتبه له أستاذ الأدب الفرنسي بيير بايارد، فأصدر عام 2007 كتابا بعنوان ظريف ومستفز: "كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها؟".ومع ذلك، لا يبدو أن إنسان اليوم قد اكتفى، بل ما زال يبحث عن المزيد، فطالت المعركة المحمومة مع الزمن وسائل الترفيه نفسها، وفطنت بعض المنصات، وعلى رأسها "يوتيوب" و"نتفلكس"، للأمر، ووفرت للمشاهدين خاصية تسريع المشاهدة، وضمان متابعة مقطع مصور أو فيلم مدته ساعتان أو حلقة من مسلسل مدتها 50 دقيقة في وقت أقل، بغض النظر عن الأثر السلبي على المتعة البصرية أو القدرة الذهنية على استيعاب كم هائل من الصور والأصوات في وقت أسرع.لطالما اتسمت علاقة المغاربة بتاريخهم بنوع من الازدواجية والتناقض، فقد فرض على أجيال سابقة اعتبار العديد من الأحداث التاريخية نوعا من الطابو الذي يحرم الاقتراب منه، وحتى عندما تقدم بعض السرديات الرسمية روايات تفتقر لأبسط درجات المنطق، يظل الجميع مجبرين على تقبل المكتوب، ثم الاعتياد عليه، والتماهي معه فيما بعد. لكن الوضع تغير نسبيا في الآونة الأخيرة، وشاعت فكرة وجود روايات أخرى، تختلف عما تلقاه تلاميذ المدارس عن تاريخ بلادهم، وهو ما اتخذ طابع سلاسل مقاطع مرئية، تتناول قصصا من تاريخ المغرب لم يرد ذكرها في المقررات الدراسية الرسمية، حيث تسلط الضوء على حقب "مظلمة" في ماضي المغاربة، وتميل إلى الإعلاء من شأن التفرد والخصوصية المغربية، أو كما يعرفها جل المغاربة بـ"تمغرابيت".عطفا على كل ما سبق، يبدو أن الجميع اليوم يرغبون في معرفة ماضيهم، لكن القلة فقط من تتكبد عناء الاطلاع على المراجع الوازنة في هذا الصدد، والغوص في صفحات "الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى" للناصري "مجمل تاريخ المغرب" لعبد الله العروي، أو "تاريخ المغرب" لدانييل ريفيه وغيرها الكثير، ومع ذلك، كانت البداية جيدة، بل لنقل ممتازة، مع برامج مثل "التاريخ اللي ماقراوناش" (التاريخ الذي لم ندرسه) و "موروكان هيستوري إكس"، يبدو فيها الجهد البحثي واضحا، مع استناد لمراجع معتمدة توضع روابطها لمن أراد الاطلاع (وهو ما لا يفعله 99% من المشاهدين) كما يميزها تركيز على فكرة جوهرية يعرفها أي دارس للتاريخ، مفادها ألا أحد يملك الإجابة الوافية عن حقيقة ما جرى في السنة أو العصر المذكور، وأن الحدث التاريخي يخضع لعدة آراء وتأويلات، بحسب من كتب عنه (ألسنا نتابع الآن تزويرا فاضحا للحاضر، فما بالك بالماضي؟)، لكن الوضع بدأ يخرج حاليا عن "السيطرة"، فتناسلت مقاطع كثيرة، تفتقر للرزانة، وتحمل عناوين مستفزة (هل كان ثمن فقدان المغرب استقلاله دراجة هوائية؟ السلطان الذي أنجب 365 ابنا بعدد أيام السنة...إلخ) فقط لأن "وحش" عداد المشاهدات يفرض سطوته على منتجي هذه المواد المرئية، وهو باب يسمح بتمرير الكثير من المغالطات الخطيرة، بقصد صريح أو من دونه، فقط لأن وقتنا لم يعد يسمح بفتح كتاب، فسلمنا ماضينا (رقابنا؟) لمن هب ودب!