مرّ ما يقرب من ربع قرن على محاولات الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة الأميركية، استنساخ نموذج "الديمقراطية الغربية" في دول الشرق الأوسط. إذ بدأت هذه المساعي تتجلى بوضوح بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001، وذلك مع تصريح الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش الشهير: "إما أن تكونوا معنا أو ضدنا".وفي إطار هذه المحاولات لصبغ شعوب المنطقة بالديمقراطية الغربية الواعدة، رفعت الولايات المتحدة شعارات جذابة ورنانة، مثل تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، دعم حرية التعبير والمشاركة السياسية، والقضاء على الأنظمة الاستبدادية واستبدالها بحكومات منتخبة.3 إستراتيجيات… ونتائج معكوسةلتحقيق هذه الأهداف، اعتمدت واشنطن 3 إستراتيجيات رئيسية، على أمل دمج شعوب المنطقة في منظومة سياسية واجتماعية واقتصادية يعتبرها الغرب النموذج الأمثل للحوكمة.كانت القوة العسكرية الأداة الأبرز في هذا النهج، حيث قادت الولايات المتحدة حملة عسكرية واسعة على نظام طالبان في أفغانستان عام 2001، ما أدى إلى سقوط حكومة طالبان وتنصيب حكومة موالية للغرب تحت شعار "الديمقراطية". وفي عام 2003، كررت الولايات المتحدة هذه الإستراتيجية في العراق، حيث قادت غزوًا عسكريًا أسقط نظام صدام حسين، ليتم استبداله بنظام سياسي جديد قائم على المحاصصة الطائفية، وُصف بـ"الديمقراطي".إلى جانب التدخل العسكري، لعبت السياسة دورًا محوريًا، خصوصًا خلال فترة إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، التي دعمت ما عُرف بـ"ثورات الربيع العربي". إذ بدأت هذه الثورات في تونس أواخر عام 2010، وأدت إلى الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011. وسرعان ما امتدت إلى مصر، حيث تم إسقاط الرئيس حسني مبارك في 11 فبراير من العام نفسه. ولم تتوقف عند هذا الحد، بل انتقلت إلى ليبيا، مما أدى إلى سقوط نظام معمر القذافي بعد تدخل عسكري غربي قادته الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو). إضافةً إلى التدخل العسكري والسياسي، لجأت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى ما يُعرف بـ"القوة الناعمة"، من خلال التأثير الاقتصادي والثقافي لنشر القيم الديمقراطية الغربية في الشرق الأوسط. تجلّى هذا التأثير من خلال دعم منظمات المجتمع المدني، وتمويل مشاريع التنمية والديمقراطية، والضغط عبر المؤسسات الدولية لنشر مفاهيم الحوكمة الرشيدة وحقوق الإنسان. كما لعبت وسائل الإعلام الغربية والمنصات الرقمية دورًا بارزًا في تشكيل الرأي العام والترويج لخطاب الديمقراطية وحرية التعبير.لماذا فشل مشروع استنساخ الديمقراطية في الشرق الأوسط؟عمليًا، وبعد مرور أكثر من عقدين على هذه المحاولات، يبدو أن عملية استنساخ الديمقراطية الغربية في الشرق الأوسط لم تحقق أهدافها المرجوة. فالعديد من الدول التي شهدت تدخلات عسكرية أو دعمًا سياسيًا للتحول الديمقراطي إما غرقت في الفوضى، أو عادت إلى الحكم السلطوي، أو أصبحت مسرحًا لصراعات نفوذ إقليمية ودولية. وبدلًا من تحقيق الاستقرار والديمقراطية، عززت هذه السياسات في كثير من الأحيان الانقسامات الطائفية والعرقية، وأدت إلى صعود تيارات متطرفة استغلت الفراغ السياسي والانفلات الأمني. وبالتالي، يبقى السؤال الأساسي: لماذا فشل مشروع استنساخ الديمقراطية الغربية في الشرق الأوسط؟وفقًا للعديد من الخبراء، يمكن اختزال أسباب هذا الفشل في 3 عوامل رئيسية:ازدواجية المعايير والتناقضات السياسية يُظهر الواقع أن الديمقراطية بالنسبة للولايات المتحدة لم تكن سوى أداة ضغط سياسي أكثر منها مشروع تغيير حقيقي. فقد دعمت الديمقراطية في بعض الدول، لكنها تحالفت مع أنظمة استبدادية في دول أخرى، طالما أن هذه الأنظمة تخدم مصالحها. وكما قال رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد: "الغرب يتحدث عن الديمقراطية، لكنه في الواقع يدعم فقط الأنظمة التي تخدم مصالحه، بغض النظر عن إرادة الشعوب".تجاهل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية الديمقراطية ليست مجرد نظام حكم، بل أسلوب حياة، كما أشار الفيلسوف الأميركي جون ديوي. ومع ذلك، حاولت الولايات المتحدة فرض نموذجها الديمقراطي دون مراعاة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لشعوب الشرق الأوسط، مما أدى إلى رفض واسع لهذا المشروع. وفي هذا السياق، قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس: "نشر الديمقراطية ليس مجرد مشروع أميركي، لكنه يجب أن يتم عبر احترام خصوصيات الشعوب وثقافاتها".تفترض الولايات المتحدة أن الديمقراطية الغربية هي النموذج الأفضل للحكم، لكن هذا ليس بالضرورة صحيحًا في كل المجتمعات. فالتاريخ والثقافة يلعبان دورًا أساسيًا في تحديد شكل الحكم المناسب لكل دولة، كما أكد المفكر صامويل هنتنغتون، صاحب نظرية "صراع الحضارات" بقوله إن "الديمقراطية الغربية قد لا تكون النموذج المثالي لكل مجتمع، فالتاريخ والثقافة يلعبان دورًا حاسمًا في تشكيل أنظمة الحكم".إعادة تقييم أم إصرار على الأخطاء؟اليوم، وبعد فشل العديد من المحاولات، يبدو أن الغرب يعيد تقييم نهجه في التعامل مع الشرق الأوسط. فقد أصبح أكثر حذرًا في التدخلات العسكرية، وأكثر ميلاً لاعتماد سياسة "إدارة الأزمات" بدلاً من "الهندسة الديمقراطية". وفي الحقيقة، يرى الكثيرون أن مقاربة الغرب لمسألة الحوكمة في المنطقة يجب أن تكون أكثر واقعية، قائمة على الأساسيات أولًا، بعيدًا عن التعقيدات السياسية والإيديولوجية. فالمنطقة، كغيرها من مناطق العالم، تحتاج إلى نموذج حوكمة يرتكز على الاستقرار الأمني والمجتمعي، ويضمن احتياجات المواطنين الصحية والتعليمية والمعيشية. كما تحتاج إلى اقتصاد قوي يؤمن القدرة الشرائية والعيش الكريم لأبنائها، بدلًا من الغرق في الإيديولوجيات المتطرفة والأزمات المزمنة. ويبقى السؤال: هل سيتعلم الغرب من دروس الماضي ويعمل على استقرار هذه المنطقة، أم أنه سيواصل تكرار أخطائه في المستقبل؟