ما زالت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تستحوذ على اهتمام الجميع، ولن أبالغ بقولي إنّ الحياة هذه الأيام بمعزل عن أخبارها وتطوراتها وأحداثها، لم تعد ممكنة بأيّ حال من الأحوال، حتى بالنسبة للجيل الصاعد، الذي ساهمت ظروف متعددة ومتشابكة، في ترسيخ قناعة معينة تفيد بأنّ القضية الفلسطينية لم تعد تعنيه، لا من قريب ولا من بعيد، وأنّ القيم الغربية بغثّها وسمينها ومنطقها وأكاذيبها، قد ابتلعته بالكامل، لكنّ الواضح الآن أنّ المعركة الموازية، الدائرة فصولها داخل وسائل التواصل الاجتماعي، قد أكدت أنّ هذا الجيل، وإن اختلفت طرقه وأساليبه، ما زال قادرًا على التأثير وإيصال صوته إلى مستويات أخرى، وبدقّة ربما فاجأت حتى الأجيال السابقة نفسها.خسائر فادحة للجيش الإسرائيليتأخرت العملية البرية الإسرائيلية كثيرًا، في ما بدا أنه استعداد طويل ومحاولة لاستكشاف الوضع على الأرض، بالإضافة إلى خشية من تهديدات حقيقية بتكبّد الجيش الإسرائيليّ خسائر فادحة، وهو ما تحقق فعلًا مع بدء العملية، وتوغّل مجموعة كبيرة من الآليات العسكرية (بين ناقلات جند ودبابات وجرافات) داخل القطاع، أو بالأحرى في أطرافه أو خواصره الرخوة (مصطلح آخر تردّد كثيرًا في تغطية وتحليل مجريات المعركة)، إذ استهدفتها نيران "حماس" بقذائف مضادّة للدروع، وتمكنت من تدمير عدد كبير منها، بل إنّ المعركة الإعلامية التي لا تقلّ ضراوة عما يجري في الميدان، دفعتها إلى توثيق أكبر قدر ممكن من هذه العمليات ونشرها في كل وسائل الإعلام، حيث يظهر المقاتلون الفلسطينيون حاملين أسلحتهم وقذائفهم، يهاجمون هذه الآليات من مسافات قريبة جدًا (أو المسافة صفر، مصطلح آخر جرى تداوله بكثرة)، وكل هذا مع ظهور مثلث أحمر مقلوب، يشير إلى الآلية المستهدفة، قبل تحقيق إصابات مباشرة ضدّها.تدريجيًا، تحوّل هذا المثلث الأحمر إلى رمز للمقاومة، وتساءل البعض عن دلالاته الحقيقية، هل هو مجرّد علامة عسكرية تشير إلى الآليات المدمرة، أم إنّ اختياره مرتبط أساسًا بالمثلث الأحمر في العلم الفلسطيني، لكنّ الأهم هو ما فهمه نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا من أبناء هذا الجيل، عن مدى الأهمية الإعلامية لهذا المثلث، فحوّلوه إلى بديل يراوغ كل وسائل التضييق الأخرى، التي تنتهجها هذه المواقع، موظّفة كل خوارزمياتها لمنع كتابة وتداول كلمات بديهية مثل "فلسطين" أو "مقاومة"، ليصبح كافيًا للتعبير عن آرائهم، ومساندتهم للمقاتلين، وتأييدهم لتصدّيها للهجوم الإسرائيليّ على القطاع."مثلّثنا أقوى من مثلثكم"ليس بجديد القول إنّ الجانب الإسرائيليّ يفتقر إلى ذرّة من إبداع، كما أنه مجبول على سرقة كل شيء، ونَسْب كل ما يدبّ فوق الأرض وما يقبع تحتها له، بما في ذلك التراث الفلسطينيّ والملابس التقليدية، بل والأكلات الشعبية أيضًا، فدرج على تسويق امتلاكه لها في المحافل الدولية والمهرجانات العالمية، تسانده طبعًا آلة إعلامية ضخمة، مستعدة لتصديق كل ما يقوله، وإن بدا مخالفًا للمنطق ومستهينًا بذكاء طفل في الرابعة من عمره، لذلك لم يكن مستغربًا (في نظري على الأقل) لجوء الناطق باسم الجيش الإسرائيليّ آفيخاي أدرعي إلى المثلث الأحمر المقلوب ذاته، عند نشره مقاطع مرئيّة لتوغّل الجيش الإسرائيلي وأهدافه "العسكرية" داخل غزة، في دلالة واضحة على الأثر الكبير الذي أحدثه المثلث في معنويات كل المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، والراغبين في رؤية إسرائيل تدفع ثمن جرائمها، بل إنه تجاوز ذلك ليقول صراحة إنّ "مثلثنا أقوى من مثلّثكم". صارت حرب مثلّثات إذن، وسنرى أيّ المثلّثين قادر على كسر الآخر، رغم كل الأثمان الباهظة والمأسوية التي دفعها أبناء قطاع غزّة حتى الآن.