على الرغم من تفوقها على منافسها الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب في المناظرة بينهما، لم تقدم المرشحة الديمقراطية نائبة الرئيس كامالا هاريس سياسات واضحة، بل اكتفت بالشعارات والمشاعر. ربما لهذا السبب، لا تزال هاريس متأخرة في استطلاعات الرأي مقارنة بأسلافها قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في 5 نوفمبر بأسابيع، فمعدلات تأييد المرشح جو بايدن في منتصف سبتمبر 2020، كانت أعلى من معدلات هاريس، وقبلهما كانت أرقام المرشحة الديمقراطية كلينتون أعلى من الاثنين. بكلام آخر، على الرغم من تفوقها الضئيل جدا على ترامب، لا تزال أرقام هاريس أسوأ ممن سبقها في الترشح عن حزبها في الدورتين الماضيتين: كلينتون وبايدن.غموض هاريس متعمّدوغموض هاريس في برنامجها الانتخابي متعمّد، إذ هي تسعى لحشد أكبر تأييد شعبي ممكن، فيما يمكن أن يؤدي تقديم مواقف محددة أو تفاصيل في هذه السياسة أو تلك إلى نفور مجموعة أو أكثر من المؤيدين. لذا، يكتسب الغموض أهمية تكتيكية انتخابيا.على الرغم من غموضها، يمكن العثور على بعض التفاصيل. في السياسة الخارجية، مثلا، من شبه المؤكد أن مستشار الأمن القومي لهاريس حاليا، فيليب غوردون، سيلعب دورا رئيسيا في إدارتها في حال فوزها، أما في منصب وزير خارجية أو كرئيس مجلس الأمن القومي ومستشار الرئيسة. وغوردون هو من نفس المجموعة التي كانت باكورة مشاركتها في صناعة السياسة الخارجية في السنوات الأخيرة من إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون، مثله مثل روبرت مالي وأنتوني بلينكن وسوزان رايس وغيرهم.هذه المجموعة تحولت إلى فريق الحزب الديمقراطي الثابت للسياسة الخارجية، بغض النظر عن اسم الرئيس. وما يحصل عادة هو أن ينخرط كل واحد من أفراد هذه المجموعة في حملة أحد المرشحين الديمقراطيين للرئاسة، ثم من يصل مرشحه، يستقطب أصدقاءه إلى الإدارة فور تشكيلها. مثلا، سبق لبلينكن ومالي وغوردون أن خدموا جميعهم كأعضاء في مجلس الأمن لقومي للرئيس باراك أوباما. في انتخابات العام 2020، انخرط مالي في حملة المرشح الديمقراطي بيرني ساندرز، وشارك بلينكن في حملة المرشح جو بايدن. أما غوردون، فرمى نفسه في حملة المرشحة كامالا هاريس. ثم صدف أن فاز بايدن بترشيح حزبه، وبعدها بالرئاسة، فصار بلينكن وزيرا للخارجية وقام بتشكيل فريق السياسة الخارجية، فوظّف مالي في وزارته وكلّفه ملف إيران، فيما نال غوردون منصبه الحالي مستشارا للأمن القومي لدى نائبة الرئيس هاريس.في حال فازت هاريس بالرئاسة في نوفمبر، سيتم تعيين غوردون في أعلى منصب للسياسة الخارجية، وسيقوم بدوره بتعيين من تبقى من المجموعة نفسها. بلينكن في الغالب سيعتزل العمل الحكومي ومالي سيبقى خارج الإدارة بسبب المتاعب التي يواجهها مع وكالات الاستخبارات الأميركية التي يبدو أنها ضبطته يمرر فحوى تقارير سرية إلى النظام في إيران. من المتبقين سيتصدر برت ماغورك اللائحة، وهو المسؤول عن الفشل الأميركي في العراق وسوريا منذ العام 2010 على الأقل، وربما يعيد غوردون شخصيات من فريق أوباما مثل تومي فيتور وبن رودز.وبغض النظر عن أسماء فريق السياسة الخارجية المتوقع في حال فوز هاريس، فإن المؤكد أن مهندس هذه السياسة سيكون غوردون من دون منازع، خصوصا بسبب شبه أمية هاريس في شؤون العالم.غوردون يدرك امكانية فوزه بمنصب وزير خارجية، وهو في هذا السياق بدأ حملة تسويق لنفسه، فطلب من أصدقاء له في "مجلس الشؤون الخارجية" استضافته في مقابلة حول الملفات الدولية المتنوعة. طبعا كان لافتا أن مواقف غوردون في المقابلة بدت أقل جذرية ومبدئية منها يوم كان هو يعمل في مركز الأبحاث نفسه في العام 2020، عندما أصدر كتابه "خسارة اللعبة على المدى الطويل".مراعاة مصالح إيران وروسيافحوى كتاب غوردون هي نقد لاذع لما وصفه سياسة أميركا في تغيير الأنظمة حول العالم. طبعا هذه فكرة تلقى رواجا لدى غالبية الأميركيين بسبب حربي العراق وأفغانستان، لكن غوردون استخدمها بمثابة "قول حق يراد به باطل" فأدرج تحت الخانة نفسها سلسلة من السياسات الأميركية التي يعارضها، واعتبرها تغييرا فاشلا للأنظمة، مثل رعاية أميركا وبريطانيا للانقلاب ضد رئيس حكومة إيران محمد مصدق في 1953، وربط، بطريقة غير مبررة بين هذا الانقلاب وعداء الإيرانيين للولايات المتحدة، في حين لم يتنبه غوردون أن إيران نهضت اقتصاديا وعلميا في ربع القرن الذي تلى "تغيير النظام" المزعوم في ايران.ويعلن غوردون أن الأميركيين لا يفهمون الشؤون الدولية، لذا عليهم مراعاة مصالح القوى المنافسة. مثلا، يعتقد غوردون أن دعم أميركا لمعارضي إيران وروسيا في الشرق الأوسط دفع بهما إلى تعزيز قدراتهما في هذه المنطقة، وهو ما رفع من نسبة الحرب والتوتر. البديل، بالنسبة لغوردون، هو أن تقوم واشنطن بالاستناد إلى دبلوماسيتها في مراعاة مصالح إيران وروسيا، وتاليا "خفض التصعيد".و"خفض التصعيد" هو عقيدة بايدن في السياسة الخارجية، وهو ما يسميه فريق بايدن إستراتيجية لكن "خفض التصعيد" هو ترقيع وادارة أزمة، ولا يرقى ليكون بمصاف إستراتيجية متكاملة.غوردون سيواصل سياسة التنازل لاعداء أميركا في سياق "الخفض" نفسه. ولكن غوردون، كما إدارة أوباما، لا يود خفض معاداة أصدقاء أميركا، مثل في الخليج، لأن هنا يصبح التدخل بشؤون الآخرين واجبا أخلاقيا.على هذا المنوال، ستحمل سياسة غوردون في إدارة هاريس المحتملة الانحياز نفسه الذي حمله أوباما وبعده بايدن ضد أصدقاء أميركا، العرب وغير والعرب، ولصالح أعداء أميركا، مثل إيران وغيرها. هو الفريق نفسه أصلا، ولا يمكن أي مراقب أن يتوقع سياسة مختلفة من نفس الأشخاص، حتى لو تغير الرئيس.