يُخبرني ولدي المراهق، أنّ في مدرسته، كلما ذكرت المعلّمة عبارة "11 سبتمبر"، يشيح كل زملائه بأنظارهم في اتجاهه، لأنه العربيّ الوحيد في الصف. لم يكن أيٌّ من هؤلاء الطلاب قد وُلد يوم وقعت الهجمات، ولا أثناء محاكمة الرأي العام العالميّ لحضارتنا العربية، التي تم ربطها، شئنا أم أبينا، بعنف حفنة من الضالّين. لكنها صورة التصقت بنا على الرغم من كل محاولات حكومات العالم ومنظماته غير الحكومية، محوها. الصيت والسّمعة لا يسيران بحسب المراسيم ولا القوانين، بل هما انطباعات تتشكل مع الوقت والتجارب. هكذا هو ناموس الحياة.لبنانيو جبل لبنانولداي وُلدا هنا في أميركا ويكبران فيها. من دون معرفة اسمَيهما، يستحيل معرفة أنهما أولاد عرب. لكننا لا نتنكّر ولا نُخفي هويّتنا، نتباهى بها. والتباهي لا يعني مواقف محددة في السياسة، ولا في التصرفات، ولا في الهندام. التباهي هو أنّ ولديّ يتحدثان العربية (العامية اللبنانية) بطلاقة، ويعرفان الثقافة. يعرفان فيروز وأم كلثوم ومحمد رمضان. يعرفان كيف نغمّس الخبز في الحمّص، وكيف نأكل التبّولة بالخسّ. يعرف ولدايَ أنّ الأدب، وحسن الضيافة، وإغاثة الملهوف، والصدق، وحسن المعاملة، والوفاء، هي ما حمله أبواهما في الحقيبة التي وضّباها يوم هاجرا من العراق ولبنان قبل عقدين. يعرفان أنّ الفوز لا يكون دائمًا مادّيًا، بل غالبًا ما يكون معنويًا، وأننا حتى لو شعرنا بالغبن، نصبر، ونطالع، ونبحث عن حلول. لا نحتاج لغضب، ولا لقضية، ولا لصراخ. القضايا سياسة، والسياسة متغيّرة، وللناس في السياسة آراء متضاربة. لكنّ حضارتنا وثقافتنا لبنانية وعربية عريقة وقديمة، نتوارثها عبر الأجيال، ونفخر بها. يعرف ولدايَ أنّ الهوية ثقافة مركّبة ومعقّدة، وأنّ القلائل هم من يتطابقون معنا في ثقافة رأس بيروت العلمانية الجامعة، ويليهم قربًا إلينا لبنانيو جبل لبنان وسهله، ثم السوريون والفلسطينيون والأردنيون. يعرفون أنهم يصيحون لجدّتهم تيتا، وأنها في العراق بيبي، وأنّ جدّي عند الفلسطينيّين سيّدي. لكنّ ولديّ أميركيان. أميركا هي البلد التي آوتنا، وساوتنا بمواطنيها، ومنحتنا جنسيتها. هي بلد ولديّ وهي مستقبلهما. هكذا هي البشرية منذ فجرها، قبائل وشعوب تهاجر، تتعارف، تتزاوج، تستوطن. لا هويات جامدة ولا أوطان ثابتة. الهويات هي مزيج من التراث والتجربة، والأوطان هي مصلحة، نرحل عنها عندما تصبح عقيمة بلا مستقبل، بحثًا عن أوطان أفضل. في حياتي الماضية في لبنان، لم يكن مستغربًا عودة هذه العائلة المغتربة أو تلك. كانت الغربة مؤقتة حتى تستوي أوضاع البلاد. كان لبنانيو المغترب يحلمون يوم تنتهي الحرب الأهلية ليعودوا. كانوا ينتظرون عودة اليوم الذي يردد فيه الناس: "نيال يللي عنده مرقد عنزة في جبل لبنان". أما في جيلي اليوم، لا عودة. لبنان هو من دول المشرق الذي يتفوّق فيه ماضيه، حتى بحربه الأهلية، على مستقبله."هلهولة للبعث الصامد هلهولة"يطالبني ولداي بذكريات. في بغداد، طلينا مصابيح السيارات بألوان داكنة. قالت لنا الحكومة إنّ هذا يحرم قوات "الخميني الدجّال" إمكانية الرؤية أثناء الغارات الليلية. كانت صفّارة الإنذار تنطلق، فنطفئ الأضواء ونختبئ تحت الدرج. لا أدري من قرر أنه الملجأ الأنسب، لكنه لم يبدُ لي كذلك يومًا. في المدرسة كنا نغنّي للرئيس السابق صدام حسين ليل نهار، وكانوا يأخذوننا إلى المؤتمرات القطرية لحزب البعث العربيّ الإشتراكي. الخطابات هناك مملّة جدًا وتمتدّ لساعات. كانت مهمتنا أن نهتف بين الخطاب والآخر "هلهولة للبعث الصامد هلهولة". الشخصية العراقية عصبية وصدامية. هربنا من حرب العراق إلى حرب لبنان. في لبنان، الفوضى تعطي شعورًا بالحرية، والشخصية اللبنانية أكثر لطافة. "تكرم عينك أستاذ" هي العبارة الأكثر تردادًا. أروي لولديّ بعض الذكريات. يوم وقع انفجار في بعلبك أودى بحياة 84 لبنانيًا، كنت وعائلتي في مكان الانفجار في وسط البلد قبله بدقائق، وقررنا تفادي الازدحام وذهبنا في طريق فرعي، ووقع الانفجار. يومًا ما، أغارت المقاتلات الإسرائيلية على مخيم الجليل وثكنة الدرك المجاورة له. مدرستي كانت قريبة وشاهدت الغارة بعينيّ وكنت أحسّ بعصف القصف مع كل انفجار.أرض لبنان باقيةفي مراهقتي في بيروت، كنا نلعب كرة القدم بعد الدوام مع منتخب المدرسة. اشتدّ صوت إطلاق النار وكثافته، أطلق الحكم صافرته. اعتقدت أولًا أنها ركلة حرة أو تسلّل، ثم رأيت حكم المباراة يركض هاربًا، وكذلك المدرب واللاعبون. ركضت يومها بأسرع سرعتي تجاه البيت. كانت أحاديث الكبار دائمًا يتخللها السؤال التالي: "صار لها الأحداث (كذا) سنة، متى تنتهي؟" كان اللبنانيون ينتظرون نهاية حربهم. يعرفون أنه يوم آتٍ لا محالة، حتى لو لم يعرفوا موعده. اليوم، يسود اللبنانيّين اليأس. البلاد تتدحرج نحو هاوية لا قعر لها، ولا موعد نهاية، ولا مستقبل، ولا أمل. مع ذلك، أستمع وولديّ لأغاني وديع الصافي ونصري شمس الدين وزكي ناصيف، وأرددها وأنا مطروب. أروي لهم قصصًا يعرفون أنها ترسم ابتسامة على وجناتنا، زوجتي وأنا. لكني لا أنقل لأولادي أحقاد الماضي، فقط التراث والذوق والثقافة والعادات. سيعيشون في بلادهم الأميركية في ظروف أفضل بما لا يقاس من وطنَي أبوَيهما، وستُغني الثقافة العربية التي ورثاها، حياتَهما الأميركية. الوطن ليس أرضًا. الوطن مجموعة بشرية تشترك في الطباع، واللهجة، والعادات، والتقاليد، وهذه تصرفات اجتماعية يحملها الفرد في شخصيته أينما حلّ ورحل، ويمكن أن يورّث الكثير منها للأجيال اللاحقة. أما الأرض، فوسيلة، وهي وسيلة لا قيمة لها بدون سياسات حكيمة ورؤى اقتصادية ومستقبل. أرض لبنان باقية، لكنّ اللبنانيّين يمضون في السير إلى شتاتهم. أما السبب، فاللبنانيون أنفسهم، الذين قدّموا بلادهم قربانًا على مذابح القضايا الإقليمية والعالمية، فلا أفادت القضايا ولا بقي لبنان.