شاهد الجميع خطاب تنصيب ترامب رئيسًا جديدًا/قديمًا للولايات المتحدة الأميركية، وتتابعت التحليلات حول مضامين الخطاب (الذي بدأ هادئًا تقليديًا قبل أن ينزلق نحو فوضوية ترامب المعهودة)، بين مستبشر بسنوات من السلام، ما دام ترامب قد أصرّ على رغبته في إيقاف كل الحروب، ومتخوف من أن ما أعلنه من سياسات، إما بيئية أو توسعية، لن تفضي في الواقع إلا إلى المزيد من التوترات والنزاعات المدمرة، سواء في فترة حكمه أو ما بعدها، وأيضا تدهور حال الكوكب بأسره، مع تراجع جهود إنقاذ بيئته المتردية أصلا.وسط كل هذا الصخب، لا أدري لماذا قادتني التحليلات المتباينة إلى التفكير مباشرة في أدب ما بعد الكارثة، الذي يبدأ دوما بكوكب مدمر إثر حرب نووية أو وباء قاتل، ما يجبر قلة قليلة من البشر على المكافحة في سبيل البقاء، وإعادة بناء حضارة لم تخلف سوى الأطلال. الطريف أن هذه النوعية من الأدب (وبالتالي السينما) مزدهرة أصلا في أميركا نفسها، فهل يعني ذلك استشرافًا حقيقيًا مبنيًا على معطيات واقعية حالية، أم إنه خوف متجذر في اللاوعي الجمعي الثقافي والديني الأميركي؟ ما هو أدب ما بعد الكارثة؟ يركز أدب "ما بعد الكارثة" (Post-Apocalyptic Literature) على استكشاف ما يجري في العالم بعد وقوع حدث كارثي غير شكل الحياة كما نعرفها، مثل الحروب النووية، الأوبئة، الكوارث البيئية، أو حتى انهيار التكنولوجيا، وتستمد هذه النوعية قوتها من تصويرها للمستقبل، بتقديم سرديات تتناول نهاية الحضارة بشكلها المتعارف عليه حاليا، والمحاولات الحثيثة لإعادة البناء، في ظل تحديات وجودية هائلة. من أبرز الأعمال الحديثة التي شكلت مرجعًا لهذا النوع الأدبي رواية The Road لكورماك مكارثي، التي تصور رحلة أب وابنه في عالم مدمر (تحولت إلى فيلم حصد نجاحًا كبيرا)، وStation Eleven لإيميلي سانت جون ماندل، التي تستعرض العالم بعد جائحة قاتلة (تحولت بدورها إلى مسلسل قصير لاقى نجاحا لافتا في فترة كورونا). تقدم هذه الأعمال رؤى مروعة، ولكنها مليئة بالتساؤلات الحاسمة حول مصير البشرية، والبحث عن معنى الحياة في مواجهة الموت. لماذا يزدهر أدب ما بعد الكارثة في أميركا؟ التأثيرات التاريخية والسياسية: تحضر في تاريخ أميركا أزمات كبرى أثّرت بعمق على الوعي الجماعي لبلد بنى سردية تفوقه وقدرته على ريادة العالم، مثل الحرب العالمية الثانية، وفترات من الحرب الباردة (أزمة الصواريخ الكوبية على سبيل المثال)، وهجمات 11 سبتمبر، فأوجدت هذه الأحداث شعورًا دائمًا بالخوف من الانهيار الوشيك.الأزمات الصحية والبيئية:شهدت العقود الأخيرة تفاقم الأزمات الصحية والبيئية، بداية بالإيدز مطلع الثمانينيات، ووصولًا إلى جائحة كوفيد-19. ما ألهم عددًا هائلًا من الكتاب على تأليف أعمال تصور ظهور مخلوقات جديدة مثل الزومبي، كرمزية واضحة لفشل الأنظمة الصحية والسياسية. كما أن تغير المناخ وتهديده للنظام البيئي العالمي دفع هؤلاء لاستكشاف المستقبل بعدسة تشاؤمية متخوفة. التغيرات الاجتماعية والثقافية: شهد المجتمع الأميركي تغيرات هائلة في العقود الأخيرة، من تغلغل العولمة إلى انهيار القيم التقليدية، ما عزّز الشعور بفقدان السيطرة على العالم، ودفع بأدب "ما بعد الكارثة" لتقديم نفسه كوسيلة لاستكشاف سيناريوهات تُبرز مدى هشاشة الحضارة البشرية. البعد الديني: على الرغم من هيمنة الخطاب العلماني، إلا أن التأثيرات الدينية التوراتية والإنجيلية (وإن كانت ثانوية أو متوارية) تظل حاضرة في المفاهيم المجتمعية وبالتالي التصورات الأدبية، فتستوحي الكثير من هذه الأعمال عناصرها المحركة من الأساطير الدينية وقصص الفداء والخلاص. على سبيل المثال، فرواية The Road تحمل مثلا رمزية دينية عميقة، حيث يُصور الأب كمنقذ يحاول حماية ابنه في عالم مدمر، ما يعكس بالتالي أصداءً من قصص الكتاب المقدس. كما أن روايات أخرى تربط بين إعادة بناء الحضارة والدور الذي يمكن أن يلعبه الدين في الحفاظ على المعرفة وإعادة صياغة الهوية البشرية، حيث يحضر الكتاب المقدس كرابط وحيد مع ماضي ما قبل الكارثة، وبالتالي الأمل الوحيد في إعادة البناء المرجوة. أي تأثير لأدب ما بعد الكارثة على المجتمع الأميركي؟ التعبير عن المخاوف الجمعية: يعكس هذا الأدب كما أسلفنا مخاوف الأميركيين من التهديدات الحقيقية والمحتملة، إذ تطرح أسئلة وجودية مثل: "ماذا سيحدث إذا فقدنا كل شيء؟" و"كيف نعيد بناء ما تهدم؟"، وقد تمتد هذه المخاوف إلى الروابط الهشة داخل المجتمع الأميركي ذاته، الذي جرب حربا أهلية في السابق، ويخشى عودتها (تحدثت عن الموضوع في مقال سابق بعنوان متى ستندلع الحرب الأهلية الأميركية؟) إعادة بناء البشرية: على الرغم من الطابع المظلم لهذا الأدب، إلا أنه غالبًا ما يقدم رسائل مفعمة بالأمل. إذ تتمحور العديد من هذه الأعمال حول قدرة البشر على التعاون وإعادة البناء بعد الكوارث، مما يعكس إيمانًا عميقًا بقدرة الإنسانية على النجاة، ويمثل رسالة صريحة تنتقد عصر الفردانية المطلقة التي نعيشها حاليا. النقد الاجتماعي والسياسي: لا يكتفي هذا الأدب باستكشاف الكارثة، بل إنه يقدم أيضا نقدا مباشرا أو متواريا للأسباب التي أدت إليها، فتبرز عدة أعمال مثلا إخفاقات الأنظمة السياسية والاقتصادية في مواجهة الأزمات. هل يمكن اعتبار أدب ما بعد الكارثة بوصلة للمستقبل؟ رغم تصويره للدمار والفناء، وغوصه في أجواء كابوسية مقبضة، إلا أن أدب ما بعد الكارثة يحمل رسائل بمضامين تحذيرية، ويدعو للتأمل في المسار الذي تتقدم من خلاله البشرية. هو بالتالي وسيلة لفهم الحاضر واستشراف المستقبل، كما أن بعده التوراتي الإنجيلي يضفي عليه عمقًا فلسفيًا، يقدم الحل عبر قيم الفداء والخلاص في ظل الفوضى. لكن السؤال المطروح هو: لماذا تركز هذه الأعمال على أميركا حصرا، ولا تشير إلى باقي أرجاء الكرة الأرضية إلا نادرا جدا، فهل أميركا هي العالم، والعالم هو أميركا؟ ربما تحمل الأرقام القياسية لمشاهدات خطاب تنصيب ترامب الإجابة...