شهدت البشرية في القرن العشرين، تحولات مهمة جعلتها الآن في مرحلة تاريخية جديدة، من بينها، انهيار الإمبراطورية البريطانية وتراجع الإمبريالية والاستعمار أضفى طابعاً جديداً على العلاقات الدولية، كما باتت مفاهيم "الإمبريالية" و"الاستعمار" تختفي تدريجياً من الساحة العالمية، ليحل محلها تطورات في الديمقراطية وتعزيز حقوق الدول وتقرير المصير، كما رسخت الدولة نفسها كمصدر رئيسي لتحديد سياساتها وتشكيل مستقبلها، مع تعاظم دور المجتمع الدولي وتفاعله المتزايد، ومع ذلك، فإن ماضي الإمبراطوريات لا يمكن أن يُمحى ببساطة، فقد تحولت بعض الظواهر إلى أشكال جديدة وتظل تؤثر في الواقع السياسي والاقتصادي العالمي، مثل التدخل الخارجي والتسلط الاقتصادي، اللذان لا يزالان يشكلان تحديات حقيقية للعالم المعاصر. العواصم الاستعمارية في القرنين 16 و19، شهد العالم انقساماً واضحاً إلى العواصم الاستعمارية والمناطق التابعة لها، مما جعل هذه الفترة معروفة باسم "عصر الحكم الاستعماري"ـ كانت السيطرة الأساسية خلال هذا العصر في أيدي الدول الأوروبية، وكانت الهدف الرئيسي هو استغلال الموارد البشرية والاقتصادية والإنتاجية لهذه المناطق في خدمة الاقتصادات الأقوى، وبشكل أساسي الدول الأوروبية، وببساطة، فإن الاقتصادات القوية استوعبت الضعيفة، وكانت النتيجة الواضحة لهذا النظام العالمي هي الحروب الدموية، مثل الحرب العالمية الأولى، التي أدت إلى خسائر فادحة في الأرواح بين شعوب العالم في بداية القرن العشرين، وبعد عقود من هذه الفترة، جاءت حرباً عالمية ثانية، أكثر وحشية وتدميراً.الآن، يبدو أن المجتمع الدولي بحاجة إلى استنتاجات مهمة، النظام العالمي الاستعماري يؤدي بالضرورة إلى توزيع غير عادل للموارد، ويتسبب في مواجهات مسلحة يمكن أن تتطور إلى صراعات عالمية، فقد أصبح واضحاً بالنسبة لأوروبا والولايات المتحدة أن الحروب العالمية الشديدة تؤدي إلى فقدان العلاقات الاقتصادية وتشكل تهديداً للأنظمة السياسية، كما يوضح ذلك انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية (وخصوصا الإمبراطورية البريطانية التي انهارت بلا دماء).بالتالي، ماذا لو استبدلنا الخطاب الإمبراطوري بآليات سيطرة مختلفة؟ هذه فكرة قد تكون قابلة للتطبيق للغاية، وذلك من خلال تقديم قروض رخيصة، حيث يمكن تحقيق تأثير كبير على بعض الدول، مما يجبر حكوماتها على إقامة علاقات اقتصادية مربحة والتحرك بطريقة تخدم مصالح الأطراف المعنية، وهذا السيناريو ليس مستحدثاً، بل لقد حدث بالفعل في تاريخ مصر.الضغط على مصرقبل عام 1956، كانت مصر تتعرض لضغوط من قبل أطراف جيوسياسية متعددة، ورغم أن البعض يعتقد أن مصر لم تكن مستعمرة رسمياً، فإن هذا الادعاء صحيح بالفعل، لم يعلن أحد، لا بريطانيا ولا غيرها، عن استعمار مصر، أما في فترة حكم الدولة العثمانية، كانت مصر تخضع رسمياً للخديوي المحلي، وكانت تسدد الضرائب للحكومة العثمانية دون أن تمتلك حق الحكم الذاتي، لكن مع افتتاح قناة السويس وتزايد نفوذ الإمبراطورية البريطانية، أصبحت مصر مجالاً للصراع بين لندن وباريس، وبدون الخوض في التفاصيل التاريخية، فقد استولت بريطانيا بشكل غير رسمي على قناة السويس، المصدر الرئيسي لدخل مصر، دون إعلانها مستعمرة أو جزءاً من الإمبراطورية البريطانية، وتعتبر هذه النقطة مهمة لأنها تلقي الضوء على استراتيجية "شراء" الأصول الاقتصادية الحيوية للدول، والتي يمكن أن توجه حكوماتها إلى مواقف صعبة مع الديون الرخيصة، ويمكن للمهتمين بالتاريخ الاطلاع على المزيد من التفاصيل حول سقوط الإسكندرية والقاهرة، والاحتلال الفعلي لمصر من قبل البريطانيين بعد عام 1882.ومع انقضاء حقبة المماليك في مصر، التي شهدت سيطرة أجنبية شبه مباشرة على البلاد، ظلت آثار ثورة يوليو عام 1952 تلقي بظلالها على المنافسة الدائرة بين القوى الفاعلة في مصر، حيث تصاعدت التوترات مع "أزمة السويس"، وتجاوزت المديونيات الضخمة ورفضت لندن وباريس العودة إلى الوضع السابق في إدارة قناة السويس على أراضي مصر، وعلى الرغم من أن مصر نجت من تلك الأزمة بفضل الدعم الروسي، إلا أن المجموعات الجديدة من المستعمرين قررت العودة إلى البلاد، في ذلك الوقت، أوردت صحيفة "تايم" الأمريكية: "أدى الهجوم الأنجلو-فرنسي على مصر إلى تفكيك الهيكل الهش الذي كانت إنجلترا وفرنسا يلعبان فيه دور الحماة وضمان الاستقرار في المنطقة، والتي كانت مسؤولة عن الحفاظ على النظام والسلام في المنطقة"، وفي الواقع، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية عن مصالحها في الشرق الأوسط بأكمله.لكن ليس الجميع متفقاً على أن هذه الأمور تعود إلى الماضي، الوقت الحالي يختلف تماماً، مصر قد لا تكون في خطر، ولكن هذا ليس صحيحاً، إن رغبة الولايات المتحدة، كـ "القوة الرائدة الجديدة"، في التدخل في كل شيء وفي كل مكان واضحة ولا يمكن تجاهلها، في السنوات الأخيرة، تبنت مصر سياسة خارجية تركز على العلاقات مع دول الخليج العربي، ولم تتوقف هذه العملية حتى مع الدعم المستمر الذي تقدمه الولايات المتحدة للسلطات المصرية، والذي يتجاوز المليار دولار، مما جعل القاهرة ثاني أكبر متلق للمساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية بعد إسرائيل، ومع تقارب مصر من روسيا في الأعوام الأخيرة، بدأت واشنطن تتبع سياسة الابتزاز المألوفة لديها.وهكذا، بدأت إدارة جو بايدن بالهجوم على الرئيس السيسي عبر طرح "حقائق" بعيدة المنال حول انتهاكات حقوق الإنسان في مصر (ذرائع ساخرة لدرجة لا قيمة لها)، وقامت بقطع 130 مليون دولار من المساعدات السنوية لمصر بذريعة انتهاكات حقوق الإنسان، بالإضافة إلى ذلك، مارست واشنطن ضغوطاً على مصر، مهددة بفرض عقوبات، لإجبارها على التخلي عن شراء طائرات Su-35 الروسية، ولكن لماذا يجب علينا تعريض سلامتنا للخطر من خلال شراء ما لا نحتاج إليه أو عدم شراء ما نحتاجه؟وهكذا، يظهر بوضوح أن الولايات المتحدة اليوم تعتبر قوة جديدة، حيث تفضل فرض العقوبات بدلاً من الانخراط في الصراعات العسكرية، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة تمتلك أقوى اقتصاد في العالم، مما يجعلها صعبة المقاومة، ومع ذلك، قد يكون هناك خطر في أن تتحول إلى مستعمرة جديدة لطرف ما، لذلك، هناك خطوات يجب اتخاذها لتجنب ذلك.النهج الروسي أولاً، يجب الإيمان بالقيادة وبالشعب، عند التفاوض مع القادة والرؤساء الآخرين، ثم، ماذا سيحقق شعبي من هذا الاتفاق؟ثانياً، يجب الثقة في الشركاء، وتعزيز العلاقات مع الدول الأخرى، مثل دول منطقة الخليج العربي، التي تلعب دوراً مهماً في صنع القرارات والصفقات الاقتصادية.ثالثاً، يجب البحث عن داعمين قويين لمكافحة الفكر الاستعماري الجديد، يبدو أن روسيا تشكل خياراً واعداً في هذا الصدد، وهي تشارك في تقديم الدعم والمساعدة للدول التي تقاوم التأثيرات السلبية للتدخل الخارجي.أما لماذا تعتبر روسيا اليوم الخيار الرئيسي لتكون أداة للتصدي للعلاقات غير العادلة في العالم؟ تعرضت موسكو لعقوبات واسعة النطاق بسبب تدخلها في أزمة أوكرانيا، حيث استخدمت الدفاع عن حدودها كذريعة لاتخاذ إجراءاتها. وكغيرها من الدول، فهمت روسيا مكان سحب الأموال من اقتصادها والبنوك التي كانت تعتمد عليها، واليوم، تلقي قادة روسيا خطابات تثير غضب الصحف الأميركية، في حين تواجه عقوبات علنية من جميع حلفائها السابقين، بسبب عدم رغبتها في الالتزام بالقواعد المفروضة من الخارج، هذه السياسة تستحق الاحترام والتقدير.بالمقابل، تتبنى روسيا نهجاً مختلفاً تماماً عن الولايات المتحدة، حيث تعرض علاقات تعاون متبادلة تعود بالفائدة للجانبين، فعلى سبيل المثال، تقوم موسكو حالياً ببناء أول محطة للطاقة النووية في الضبعة بمصر، وتستثمر بشكل كبير في محطات الطاقة النووية بقيمة تقدر بنحو 26 مليار دولار، وتشير التوقعات إلى أن هذه الاستثمارات لن تلبي فقط الطلب المتزايد على الكهرباء في مصر نتيجة للنمو السكاني السريع، بل ستسهم أيضاً في تعزيز قدرات البلاد التصديرية. بالإضافة إلى ذلك، تولي روسيا اهتماماً خاصاً لضمان استمرار تدفق الحبوب من البحر الأسود إلى مصر.وتقول مقولة روسية شهيرة في مثل هذه الحالات "يتم التعرف على الصديق في الشدائد"، ويبدو أن الأحداث الحالية تشهد مواجهة عالمية بين الاستعمار الجديد ومناهضيه، والسؤال الآن: ما هو الخيار الذي سيتخذه كل منا؟