ابتهج اللبنانيون والعرب بتعيين القاضي نواف سلام رئيسًا لمحكمة العدل الدولية، لكن البهجة لم تخلُ من غصَّة، والسبب في ذلك يعود إلى إيمان العالم بالعقل القضائي اللبناني وبالعقل العدلي اللبناني، فيما القضاء والعدل في لبنان نسبيَّان ووجهة نظر.لم يخرج لبنان إلى رحاب القضاء الدولي، في قضية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، الذي يصادف الأربعاء المقبل الذكرى 19 لاغتياله، لو كانت هناك ثقة بالقضاء اللبناني. حتى إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان استغرق جهدًا لبنانيًا على المستويات الحكومية والنيابية والدبلوماسية، وحتى الدولية، ولو لم تتضافر تلك الجهود لَما تشكَّلت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وحتى تلك المحكمة تعرَّضت لضغوط من أكثر من دولة، بدليل أن أليو ماري وزيرة الدفاع الفرنسية، سابقًا، كشفت في حديث تلفزيوني أن المحكمة تعرضت لضغوط لتقتصر اتهاماتها على أشخاص وليس على أحزاب أو دول، وحتى بعدما أكملت المحكمة عملها وأصدرت حكمها، الذي سمَّى أشخاصًا مسؤولين في "حزب الله" بأنهم وراء اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فإن قيادة الحزب رفضت الاتهام كما رفضت تسليم المتهمين، معلنةً أن لديها "قديسين وليس قتلة" مهدِّدة بأنها ستقطع يدَ مَن يحاول الوصول إليهم."بلغنا الحقيقة، ولكن متى نبلغ العدالة"؟ وبشكلٍ دراماتيكي، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة إنهاء أعمال المحكمة، وأقفلت أبوابها في لاهاي، ونُقلت الوثائق والمستندات إلى الأمم المتحدة في نيويورك، وهكذا ضاع على اللبنانيين فرصة معرفة الحقيقة كاملةً عمَن اغتال أو حاول اغتيال الكثير من الشخصيات وخصوصا منهم الإعلامية مي شدياق وصاحب جريدة "النهار" جبران تويني ونائب رئيس الحكومة وزير الداخلية والدفاع السابق إلياس المر والأمين العام السابق للحزب الشيوعي جورج حاوي، والكاتب سمير قصير، وآخرون كثر. ورُفِع شعار: "بلغنا الحقيقة، ولكن متى نبلغ العدالة"؟تكرَّر الأمر عينه في قضية تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس عام 2020، بشقِّ النفس تمت إحالة القضية إلى المجلس العدلي، وهو أعلى سلطة قضائية وفق النظام القضائي في لبنان، وأحكامه مبرمة، تمَّ تعيين محقق عدلي ليبدأ تحقيقاته في القضية، لكنه اعتذر عن عدم إكمال مهمته، أي أنه تنحَّى عن الملف. تمَّ تعيين محقق عدلي جديد، هو القاضي طارق البيطار، لكن حين اكتشفت السلطة التنفيذية جدِّية القاضي البيطار وإصراره على الوصول إلى الحقيقة، بدأت عملية التضييق عليه وصولًا إلى "كفِّ يده"، فتمَّ تعليق التحقيقات، وأكثر من ذلك، مَن كانوا موقوفين على ذمة التحقيق جرى إطلاق سراحهم، كما أن مَن كانت هناك مذكرات توقيف غيابية بحقهم، وبينهم وزراء، كوزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس (باعتبار أن المرفأ تابع لوزارة الأشغال) ووزير المال السابق علي حسن خليل، فكانت الحصيلة: إطلاق جميع الموقوفين من دون استكمال التحقيق وإصدار القرار الظني عن المحقق العدلي.استرداد مذكرات التوقيف الغيابية بحق الوزيرين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل.هكذا تساوى ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وسائر الشخصيات التي تمّ اغتيالها، مع ملف تفجير مرفأ بيروت: لا موقوف واحد في اغتيال الحريري، ولا موقوف واحد في تفجير مرفأ بيروت، وحين لا تنعقد محكمة فما قيمة الحقيقة التي منها تنبثق العدالة؟ حين يصل قاضٍ لبناني هو القاضي نواف سلام، إلى أعلى منصب قضائي دولي، فيما قاضٍ لبناني آخر كُفَّت يداه عن أخطر ملف لبناني، حيث إن تفجير المرفأ عُدَّ على أنه أكبر تفجير غير نووي في العالم، نَدرِك الدَرْك الذي وصل إليه القضاء في لبنان، والذي يؤدي إلى عدالة غائبة ومغيَّبة ومؤجَّلة إلى أمدٍ طويل.