قدمت مؤسسة هيريتيج الأميركية وثيقتها التقليدية التي دأبت على تقديمها منذ انتخابات ريغان الأولى في 1980، والتي صارت بمثابة برنامج حكم الحزب الجمهوري في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهي وثيقة من 800 صفحة بعنوان "مشروع الانتقال الرئاسي 2025". في السياسة الخارجية اعتبر الجمهوريون أن الخطر الأول والأخير على الولايات المتحدة هي "الصين الشيوعية"، وكان لافتا أن روسيا لم تحل في المركز الثاني في الخطورة على أميركا، بل جاءت "الجمهورية الإسلامية في إيران"، تلتها روسيا، فكوريا الشمالية، ثم فنزويلا، وهذا ما يمثل حاليا "محور الشر" في عقيدة الجمهوريين في السياسة الخارجية.أوكرانيا هي من أكثر الحكومات فسادا في العالم وأشارت الوثيقة إلى انقسام بين صفوف "الحركة الأميركية المحافظة" حول حرب روسيا في أوكرانيا، فاعتبرت أن الجمهوريين على مذهبين، يعتقد كلاهما أن رئيس روسيا فلاديمير بوتين تجاوز القوانين الدولية باجتياحه أوكرانيا، وأن للأخيرة كامل الحق في الدفاع عن نفسها. لكن الجمهوريين ينقسمون، حسب الوثيقة، إلى مدرستين، واحدة تعتبر أن لأميركا مصلحة تامة في دعم أوكرانيا بكل السبل الممكنة، وثانية ترى أن أوكرانيا هي من أكثر الحكومات فسادا في العالم، وأن أي مساعدة أميركية يجب أن تقتصر على تقديمات عسكرية مع الإصرار على تأمين تمويلها من داخل الموازنة الأميركية (أي من دون مراكمة أي ديون إضافية على الدين العام الأميركي).حول إيران، يبدو أن سياسة الجمهوريين هي تكملة لسياسة "الضغط الأقصى"، التي كان يمارسها الرئيس السابق دونالد ترامب، مع إضافة أنه لا يمكن السماح لطهران بحيازة سلاح نووي، وهو أمر سيكون أكثر صعوبة وتعقيدا في حال فوز ترامب بولاية رئاسية ثانية إذ إنه - على عكس ولايته الأولى - صارت إيران في مراحل متقدمة من التخصيب، واقتربت جدا من صناعة القنبلة، وهو ما قد يتطلب أكثر من العقوبات الاقتصادية لمنع الإيرانيين من التحول إلى قوة نووية في العالم.عن الشرق الأوسط، تنص "مشروع الانتقال الرئاسي 2025" على ضرورة "إعادة الانخراط مع دول الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا وعدم التخلي عنها"، إذ "بدون القيادة الأميركية، قد تغرق المنطقة أكثر في الفوضى، أو تقع في أيدي أعداء أميركا". لذا، تقترح الوثيقة عدد من الخطوات، أولها ضرورة "منع الولايات المتحدة إيران من حيازة تقنية نووي وقدرات استخدامها عسكريا، وبشكل عام التصدي للطموحات الايرانية"، ثم "اعادة تطبيق وتوسيع العقوبات" على طهران، يلي ذلك "تقديم المساعدة الأمنية للشركاء الإقليميين"، ثم دعم الإيرانيين "بطرق ديبلوماسية وغير ذلك في ثورتهم ضد الملالي". ويورد البند نفسه أن على واشنطن أن "تضمن أن لدى إسرائيل القدرات العسكرية، والدعم السياسي، والمرونة للقيام بما تعتقده خطوات مناسبة للدفاع عن نفسها ضد النظام الإيراني ووكلائه الاقليميين "حماس"، و"حزب الله"، والجهاد الإسلامي".تحسين علاقة واشنطن بالرياض وتدعو الوثيقة ثانيا إلى البناء على نجاحات "اتفاقيات ابراهيم للسلام" وتوسيعها لتشمل المملكة العربية السعودية، مع ما يتطلب ذلك من نسف سياسة الرئيس جو بايدن التي ضعضعت الشراكة الأميركية القديمة مع السعودية. كما تدعو إلى وقف تمويل السلطة الفلسطينية، من دون تبيان الأسباب، وإلى التخلي عن "قسد" وحزب العمال الكردستاني من أجل استمالة تركيا واستعادتها إلى داخل تحالف الأطلسي، بدلا من تركها تراهن على روسيا والصين.في البند الثالث، يرد أنها في مصلحة الولايات المتحدة بناء تحالف أمني رباعي فيه إسرائيل ومصر ودول الخليج والهند يضمن حماية حرية الملاحة في الخليج، كما في البحر الأحمر وقناة السويس. أما الرابع، فيشير إلى ضرورة حماية حقوق الانسان، خصوصا المسيحيين وباقي الأقليات.بصورة عامة، يمكن القول أن الجديد الوحيد في خطة الحكم المقبلة للحزب الجمهوري هو التخلي عن النزعة الانعزالية التي سادت في صفوف قاعدة الحزب وقيادييه منذ ترشح ترامب لولايته الأولى في 2016، إذ كانت الولايات المتحدة، في ذاك الزمان، لا تزال منخرطة عسكريا، وبتكاليف مالية مرتفعة، في أفغانستان، وهو ما جعل ترامب يكسب شعبية كبيرة من وعوده بإنهاء "الحروب التي لا تنتهي". لكن ترامب لم ينه حرب أفغانستان، بل فعل ذلك بايدن، الذي انسحب منها على الرغم من صراخ الجمهوريين ومعارضتهم لخطوته.ولكن أفغانستان والخلاف حولها صار اليوم من الماضي، فيما دفع صعود الصين الأميركيين، من الحزبين، إلى تحويل بكين إلى عدوهم الأوحد والأول، وسن سياسات تتمحور حول التصدي لها في عموم المعمورة، بما في ذلك الشرق الأوسط. هكذا، انتهت الدعوات إلى الخروج من مستنقع الشرق الأوسط لانعدام قيمته الاستراتيجية، أو بهدف "الاستدارة شرقا"، إذ صار يبدو جليا أن الاستدارة نحو الشرق الأدنى للتصدي للصين تتطلب البقاء في الشرق الأوسط كجزء من عملية التصدي هذه.وثيقة "مشروع الانتقال الرئاسي 2025" هي نبض الحزب الجمهوري وشعوره العام. على أنه يستحيل معرفة إن كان المرشح الجمهوري دونالد ترامب، في حال عودته إلى البيت الأبيض، سيلتزم بها أو بأي وثيقة أو خطة متماسكة، إذ هو في ولايته الأولى، ظهر على شكل رئيس فوضوي، معلوماته عن العالم والسياسة الدولية شحيحة، وخطواته ارتجالية، وبعضها يناقض بعضها الآخر. حتى أن أكثر الجمهوريين انضباطا ومعرفة، من أمثال السفير السابق جون بولتون، لم يصمد طويلا في إدارة ترامب، بل رحل عنها وتحول إلى أكبر منتقديها.فهل يتغير ترامب في ولايته الثانية؟ وهل يلتزم وثيقة أعدها فريق ضخم من الجمهوريين ويسعون إلى تثبيتها كرؤية موحدة لحزبهم الذي تشوبه الانقسامات والكثير من التفكك؟ المستقبل سيجيبنا على أسئلتنا هذه، ولكن هذه الإجابات هي رهن فوز ترامب، فإن لم يوفق في ذلك، تكون الوثيقة بمثابة تدريب أكاديمي لا أكثر.