يعكس النقاش الدائر حول مدونة الأسرة المغربية رهانات الفاعلين المدنيين والسياسيين بالمغرب، كما يبرز موازين القوى وآليات التدبير التي تعتمدها الدولة في مقاربة موضوع شائك يرتبط بأوضاع الفئات العريضة من المجتمع، كما يتصل بنصوص دينية، وبسلطات الملك وصلاحياته الدستورية، ويطرح بالتالي إشكالية التوازن الصعب بين النصوص الثابتة والواقع المتحرك.وإذا كنا في مقال سابق قد أوضحنا أهم مطالب الصفّ الحداثي، واعتراضات التيار المحافظ، فإن المقال الحالي يأتي بعد شهور من المشاورات، التي أعقبها تقديم الهيئة المكلفة لنتائج استماعها لمختلف القوى الفاعلة في المجتمع، هذه النتائج التي كانت تضم مواقف مشتركة وقضايا خلافية، حيث تولى الملك البتّ في ما اختُلف فيه من الشؤون المدنية، كما أحال القضايا الخلافية ذات الصلة بنصوص دينية إلى "المجلس العلمي الأعلى" المكلف بإبداء الرأي الاجتهادي في ذلك النوع من القضايا، مثل الولاية على الأطفال، والحضانة، وتعدد الزوجات، وزواج القاصرات، واقتسام الأموال المكتسبة بعد الطلاق، ومشكلة "التعصيب" والتمييز في نظام الإرث، والتوارث بين المتزوجين من ديانات مختلفة، وغيرها من الأمور التي تحتاج في مراجعتها إلى أخذ رأي المجلس في الاعتبار، والذي عليه "بذل الوُسع" لإيجاد حلول للمشاكل الواقعية للأسرة، استجابة لإرادة الدولة في تدارك الثغرات التي أبانت عنها العشرون سنة المنصرمة (آخر مراجعة للمدونة كان سنة 2004).3 مواقفوبعد شهور من الترقب، أبان الديوان الملكي في بلاغ له عن الخطوط العريضة للمراجعة التي شملت 139 مادة، كما عُقد لقاء حضره وزير العدل ووزير الشؤون الإسلامية، أوضحا فيه مُجمل ما تم تعديله في الأمور الخلافية ذات الصلة بالدين، والتي عددها 17 تعديلًا، لينطلق النقاش العمومي من جديد وبالحدة نفسها التي انتهى بها قبل إغلاق باب المشاورات وعمل الهيئة المكلفة. حيث عبر الحداثيون من قوى نسائية ومدنية وتيارات سياسية عن تثمينهم للتعديلات رغم محدوديتها، بينما عبر التيار الديني المتشدد عن ثلاثة مواقف مختلفة ولكنها متقاربة:موقف الرفض الجذري للتعديلات باعتبارها مخالفة للشريعة الإسلامية ومتجاوزة لقواعد الفقه الإسلامي وضوابطه في الاجتهاد.موقف تثمين منهجية التشاور التي اعتمدتها الدولة، مع إبداء الرغبة في متابعة مسلسل تحرير نص المدونة في البرلمان، بغرض محاولة تقليص التعديلات أو تضييقها ما أمكن.موقف التحذير من إمكان أن تنعكس تلك التعديلات سلبا على الأسرة المغربية أثناء تطبيقها، حيث اعتبر أصحاب هذا الموقف أن الحرص على حقوق النساء والأطفال قد أضرّ بحقوق الرجال.بينما اعتبر التيار الحداثي بأن التعديلات لا تمس حقوق الرجال بقدر ما تنقص من امتيازاتهم، التي كانوا يتمتعون بها في النظام الشرعي على حساب معاناة النساء والأطفال، وأن الضجة المثارة في هذا الموضوع إنما هدفها محاولة الرجال الحفاظ على امتيازاتهم السابقة.أهم القراراتوتبرز الخطوط العريضة التي تم الإعلان عنها بأن الدولة قررت جعل الولاية على الأطفال مشتركة بين الرجل والمرأة، وأطلقت عليها "النيابة القانونية" عوض "الولاية الشرعية"، كما قررت احتفاظ المرأة المطلقة بحضانة الطفل رغم زواجها، واحتفاظ أحد الزوجين ببيت الزوجية عند وفاة أحدهما مما يقطع الطريق أمام تشريد الورثة للأسرة والأطفال، وتم تحديد سن الزواج في 18 سنة مع استثناء مقيد لبعض الحالات شرط عدم النزول عن سن 17 سنة، مما يقضي على ظاهرة تزويج القاصرات، واعتبرت المراجعة بأن الزواج الوحيد الذي تعترف به الدولة هو الذي يتم بعقد شرعي، مما يجعل "زواج الفاتحة" أو "الزواج العرفي" مرفوضًا وغير معترف به لما ينجم عنه من ضياع مصالح النساء والأطفال عند تهرّب الزوج من أيّ مسؤولية في غياب أي أثر مكتوب. كما نصّت المراجعة على تقييم عمل المرأة في البيت من أجل اقتسام الأموال المكتسبة بعد الطلاق، وعلى إقرار "الهبة" للفتيات بدون إمكانية الطعن فيها من طرف الورثة حماية لهن من "التعصيب"، وإقرار "الوصية" و"الهبة" للمتزوجين من ديانات مختلفة، وغيرها من التعديلات التي تثير اليوم نقاشًا مستفيضًا في المجتمع المغربي، حيث عبر البعض عن ارتياحه لهذه التعديلات في الوقت الذي عبر البعض الآخر عن تخوفاته من أثرها على الرجل، مما جعل البعض يتحدث عن ترقب ارتفاع نسبة العزوف عن الزواج وارتفاع نسبة الطلاق في ظل المدونة الجديدة، وهو ما ردّ عليه المتمسكون بأهمية تلك التعديلات بضرورة تغيير العقليات لكي تلائم النصوص الجديدة.ولعل من أهم القرارات التي واكبت هذه المراجعة لمدونة الأسرة المغربية، ما أعلن عنه بلاغ الديوان الملكي بإحداث هيئة جديدة خاصة بمواصلة "الاجتهاد المنفتح" لجعل النصوص مواكبة لتحولات المجتمع، مما يعني التأكيد على الإرادة الملكية في استمرار المراجعات مستقبلًا.