في عام 1545 أنشأ المستعمرون الإسبان مدينة لعمال التعدين أطلقوا عليها اسم "بوتوسي"، على ارتفاع أكثر من 4 آلاف متر بالقرب من جبل يشاع أنه كان يحتوي على كميات ضخمة من معدن الفضة، في المنطقة التي تُعرف اليوم باسم دولة بوليفيا. ولكنّ الوافدين الجدد الذين استوطنوا تلك المرتفعات لم يهنأوا في حياتهم الجديدة، حيث تبين بعد فترة، أنّ السكان الأصليين كانوا يُنجبون أطفالًا، في حين أنّ الأزواج الذين ينحدرون من أصول أوروبية ظلوا بدون أطفال لعقود طويلة.وفسر العلم الحديث هذا الظاهرة، بأنّ الهواء في الأماكن المرتفعة يحتوي على كميات أقل من الأكسجين الذي يحتاجه الجنين في رحم الأم، علماً بأنّ واحدًا على 7 من الهواء الذي تستنشقه الأم يصل إلى المشيمة التي تستهلك بدورها 40% منه وتمرر الباقي إلى الجنين، وهو ما يصفه الطبيب جوزيف باركروفت الرائد في مجال علم وظائف الاعضاء، بأنه "جبل أيفرست داخل الرحم" في إشارة إلى أنّ كمية الأكسجين التي يحصل عليها الجنين تكون محدودة مثل كمية الأكسجين التي يتنفسها متسلقو جبل إيفرست، وهو أعلى جبل على سطح الارض.ولكنّ الحياة في الأماكن المرتفعة تضيف بالقطع بعدًا جديدًا إلى هذه المشكلة. واجتمعت مجموعة من الباحثين بجامعة كامبريدج بانجلترا مؤخرًا للتباحث من أجل إيجاد الحلول لكثير من الأمهات الحوامل اللاتي يعشن في مدن وبلدات تقع على ارتفاعات شاهقة فوق مستوى سطح البحر.الحمل والمرتفعات ومن بين هذه المشكلات أنّ الحوامل غير المؤهلات من الناحية الجينية والوراثية على الحياة في الأماكن المرتفعة، تتراجع لديهنّ كمية الدم التي تصل إلى المشيمة. وقد لاحظ الباحثون على سبيل المثال أنّ النساء من السكان الاصليين في بوليفيا اللواتي اعتدن على الحياة على ارتفاعات تزيد عن 3600 متر فوق مستوى سطح البحر (11800 قدم) تضخ أجسامهنّ كميات كبيرة من الدماء في المشيمة، وأنّ مواليد هؤلاء النساء يتميزون بوزن أكبر عند ميلادهم، مقارنة بمواليد الأمهات اللاتي ينحدرن من أصول أوروبية، وبالتالي لسن مؤهلات وراثيًا للحياة في تلك المناطق المرتفعة.وتقول اختصاصية علم الإنسان ووظائف الأعضاء بجامعة كولورادو الباحثة لورنا مور إن: العلماء لاحظوا منذ أكثر من خمسين عامًا، أنّ المواليد الذين ينحدرون من أصول أوروبية في بلدة ليدفيل التي يسكنها عمال التعدين بولاية كولورادو وتقع على ارتفاع 3100 متر، يكونون أقل وزنًا من أقرانهم الذين يولدون في مدينة دنفر المجاورة التي تقع على ارتفاع 1600 متر فقط. تبين لاحقًا أنّ معدل تدفق الدم إلى المشيمة لدى الحوامل من سكان ليدفيل، يقل بنسبة 30% مقارنة بالأمهات في دنفر، ما يؤثر على معدلات نمو الأجنة. يعاني المواليد الأصغر حجمًا، مشكلات صحية ليس فقط على المدى القصير، بل تتزايد لديهم مخاطر الوفاة في سن الطفولة بمعدل يتراوح بين 8 إلى 20 مثل مقارنة بغيرهم، كما ترتفع احتمالات إصابتهم بأمراض مزمنة في مراحل لاحقة من العمر، مثل ضغط الدم والسكري وفرص الوفاة المفاجئة بسبب النوبات القلبية.ودرس الباحثون العوامل الوراثية التي تجعل سكان الأماكن المرتفعة أكثر قدرة على تحمّل مشكلة نقص الأكسجين، سواء أثناء الحمل أو خلال حياتهم الطبيعية.وتركزت الأبحاث على مادة بروتينية داخل الجسم تحمل اسم AMPK ويتمثل دورها في قياس كمية الطاقة التي تتوافر للخلية والمساعدة في توفيرها وترشيد استخدامها. وتوصلت دراسة أجريت في جامعة كولورادو عام 2014، أنّ النساء البوليفيات لديهنّ نسختين من شفرة جينية لتكوين هذه البروتين، ما يجعل مواليدهنّ أثقل بنسبة 20% مقارنة بأقرانهم ممن ينحدرون من أصول أخرى. وتركزت الأبحاث أيضًا على "الميتوكوندريا"، وهي أحد مكونات الخلية الحية ويتمثل دورها في تحويل الطاقة المختزنة داخل الدهون والسكريات إلى مادة تصلح لتغذية الخلية. وينتج عن هذه العملية البيولوجية نوعًا من المخلفات يطلق عليها اسم "مركبات الأكسجين التفاعلية"، وعندما تقل كمية الاكسجين التي تصل للخلية، على غرار ما يحدث أثناء العيش في الأماكن المرتفعة، تتزايد كمية هذه المركبات أو المخلفات الضارة التي تنتجها الخلية، وهو ما يمكن أن يؤثر على الأجنة على المدى الطويل.ويبحث العلماء حاليًا إمكانية استخدام نوع من مضادات الأكسدة يحمل اسم "ميتو كيو"، وهو مصمم للوصول مباشرة إلى الميتوكندريا داخل الخلية وتقليل انبعاث مركبات الأكسجين التفاعلية التي يُعتقد أنها تزيد مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية في مراحل لاحقة من العمر، ومن دون الإضرار في الوقت ذاته بالوظيفة المهمة التي تقوم بها هذه المركبات في مراحل الحمل المختلفة، ما يحد بدرجة كبيرة من مشكلات الحمل والإنجاب في الأماكن المرتفعة سواء بالنسبة للأم أو الجنين.(د ب أ)