يستشعر عقل الإنسان بشكل فطري ندرة الموارد في البيئة المحيطة به، وتتغير طريقة تفكيره وسلوكياته إذا ما لاقى ندرة في موارد حيوية مثل الغذاء أو الوقت على سبيل المثال. وعندما يشارك شخص ما في لعبة قد يترتب عليها مكسب أو خسارة بشكل مفاجئ مثل القمار مثلا، تجد الخاسر يتخذ قرارات متخبطة لتحقيق مكسب سريع رغم أنه قد يواجه خسارة أكبر في وقت لاحق. ولعل تفسير هذا النمط السلوكي هو أن الندرة في المعتاد تجهد التفكير، بمعنى أن الشعور بالنقص يصيب المرء بحالة من التشتت تجعل من الصعب بالنسبة له التركيز والتخطيط بشكل سليم. لكن، دراسة حديثة أثبتت أن البشر يتفاعلون مع ندرة المياه بشكل مختلف للغاية مقارنة بندرة الموارد الأخرى، حيث اتضح أن البشر في الأماكن التي تندر فيها المياه يفكرون بشكل أعمق ويتدبرون شؤونهم على المدى الطويل، بعكس الأشخاص الذين يعيشون في بيئات تتوافر فيها المياه.وأثبتت الدراسة أن القلق من عدم توافر المياه يجعل الإنسان يخطط بشكل أفضل ويبتعد عن الإهدار بشكل عام.استجابة البشر للمشكلات البيئيةويقول الباحث توماس تالهيلم المتخصص في العلوم السلوكية بجامعة شيكاغو بوث الأميركية إن الإنسان كفصيلة حية يدرك أن استمرار حياته مرهون بتوافر المياه، وبالتالي فإن ندرة المياه تضعه في حالة ذهنية من التركيز والتفكير طويل المدى، وأن هذا الاكتشاف ينطوي على تداعيات مهمة بالنسبة لاستجابة البشر لمشكلات بيئية مثل تغير المناخ. وأوضح تالهيلم في مقال أورده الموقع الإلكتروني لـ"مجلة العلوم الأميركية" المتخصصة في الأبحاث العلمية أنه في إطار الدراسة، تم تقسيم 211 طالبا جامعيا إلى مجموعتين ثم تم استطلاع رأي كل مجموعة بشكل منفصل بشأن موقفين افتراضيين من خلال مقالين بحثيين، يتضمن الأول ندرة المياه خلال 1200 عام، والثاني يفترض وفرة المياه بغزارة من خلال أمطار وفيضانات بسبب التغيرات المناخية التي يتعرض لها العالم. وكان القائمون على التجربة يسألون المتطوعين بشأن مدى أهمية الحفاظ على الموارد والتفكير طويل المدى.وتبين من التجربة أن المتطوعين الذين قرأوا المقال الذي يتناول ندرة المياه كانوا أكثر ميلا للتفكير بشأن المستقبل وإيجاد حلول طويلة المدى، كما تجاوبوا مع "ضرورة أن يعيش الإنسان من أجل المستقبل" وأهمية الادخار والحفاظ على الموارد. وفي المقابل كان المتطوعون الذين قرأوا المقال بشأن وفرة المياه من الأمطار والفيضانات أكثر ميلا للاستفادة من الحياة في الوقت الراهن دون التفكير بشأن أعباء الادخار أو الحفاظ على الموارد.ويؤكد تالهيلم أن استطلاع رأي المتطوعين بعد مجرد قراءة مقالين بشأن ندرة المياه أو توافرها قد لا يكون كافيا لفهم استجابة البشر حيال مشكلة عدم توافر الموارد، مشيرا إلى أنه تم إجراء تجربة أخرى أكثر عمقا على سكان مدينتين متقاربتين جغرافيا في إيران، وهما شيراز ويازد. ورغم تشابه الوضع الاقتصادي واللغة والثقافة والعرقية في المدينتين، فقد كان وجه الاختلاف بينهما يكمن في أن يازد تعاني من طقس جاف تندر فيه الأمطار، في حين أن شيراز تنعم بكميات وفيرة من الأمطار وتنتشر فيها الحدائق وأشجار الفاكهة. وفي إطار التجربة، تم إجراء اختبار نفسي لـ331 شخصا من سكان المدينتين لقياس استجابتهم لفكرة "التأقلم طويل المدى" مع معطيات البيئة المحيطة، أو ما هي الأولويات التي يضعها سكان المدينتين بالنسبة للمستقبل. وأثبتت هذه الدراسة أن سكان مدينة يازد التي تعاني الجفاف وندرة المياه، كانوا أفضل في التخطيط للمستقبل، في حين أن سكان مدينة شيراز كانوا أكثر تجاوبا مع فكرة عش اللحظة الحالية دون اهتمام كبير بالمستقبل.أهمية الادخار من أجل المستقبلومن أجل الحصول على رؤية أشمل بشأن تغير تفكير البشر في حالات ندرة المياه، اتجه الباحثون إلى "دراسة القيم في العالم"، وهي مشروع بحثي عالمي أجري على مدار سنوات في مختلف دول العالم. ويجمع هذا المشروع معلومات بشأن المعتقدات والقيم التي يؤمن بها الإنسان. ويقول تالهيلم إن مجموعته البحثية ركزت على استطلاع تناول رأي المشاركين من 87 دولة حول أهمية الادخار من أجل المستقبل مقابل الاسراف في الإنفاق. ووجد الباحثون أن المتطوعين من الدول التي تعاني من الجفاف بشكل تاريخي كانوا أكثر ميلا لفكرة الادخار من أجل المستقبل، في حين أن نظراءهم من الدول الغنية التي لا تعاني من مشكلات في المياه مثل بعض دول أوروبا على سبيل المثال كانوا أقل اهتماما بالتخطيط للمستقبل. ويقول تالهيلم إن هناك دلائل علمية على أن الاهتمام بمشكلة ندرة المياه أحدث تطورات فسيولوجية على المستوى الجيني لدى الإنسان، وأوضح أن الفئران لديها قرابة ألف جين يخص مستشعرات الشم، في حين أن عدد هذه الجينات لدى البشر لا يتجاوز 400، والرغم من ذلك تجد الإنسان أكثر قدرة على استنشاق رائحة مياه الأمطار العذبة عن قدرة أسماك القرش على رصد رائحة الدماء في مياه البحر. ويرى أن هذا الملمح العلمي إنما يؤكد أن الماء بالنسبة للإنسان بلغ درجة من الأهمية أحدثت لديه تغيرات فسيولوجية تجعله أكثر قدرة على البحث عنه واستشعار رائحته. وبالنظر إلى مشكلة تغير المناخ التي تواجه العالم حاليا، وتجعل موجات الجفاف أكثر شيوعا عن ذي قبل، يرى تالهيلم أن هذه الدراسة تؤكد أن الاحترار العالمي والجفاف سيعيد صياغة طريقة تفكير الإنسان بشأن المستقبل، بل وسيجعل مجتمعات بأسرها أكثر حرصا على حماية الموارد والحفاظ عليها، ويعتقد أن هذا التغير في النمط السلوكي للإنسان قد يكون فرصة ذهبية للبشرية في مواجهة خطر داهم مثل تغير المناخ.(د ب أ)