قام وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، أخيرا بجولة إفريقية شملت 4 دول فسّرها مراقبون بأنها تهدف إلى إظهار اهتمام بلاده بالقارة السمراء، في خضمّ التنافس الذي تشهده بين الغرب والصين وروسيا، والذي انعكس على شكل انقلابات عسكرية، أدت إلى انحسار نفوذ العديد من الدول الأوروبية فيها.بالإضافة إلى الخشية الأميركية من تعاظم النفوذين الصينيّ والروسيّ في إفريقيا، فإنّ الإمكانات الاقتصادية الهائلة للقارة التي ستصبح موطنًا لنحو ربع سكان العالم بحلول عام 2050، والتي تمتلك أصغر المعدلات العمرية من بين سكان العالم، اذ توجد فيها أعلى 10 دول ذات أدنى متوسط عمري، وفقًا لمركز "ويلسون"، ووموقعها الجيوسياسي الهام، دفعت واشنطن إلى التحرّك سريعًا لتدارك خسائرها الوجودية فيها.بايدن يحاول تصحيح مسار ترامبتعرّضت العلاقات الأميركية - الإفريقية إلى انتكاسة كبيرة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي لم يقم بزيارة إفريقيا خلال فترة رئاسته، ما جعله أول رئيس منذ رونالد ريغان لا تطأ قدمه القارة السمراء خلال وجوده في منصبه.لكنّ سبب الانتكاسة كانت اللغة التحريضية التي دأب ترامب على استخدامها في ما يخصّ إفريقيا. خلال اجتماع في البيت الأبيض مع مشرّعين حول الهجرة، أعرب ترامب عن استيائه من "قبول الولايات المتحدة المزيد من المهاجرين من هايتي والبلدان الشريرة في إفريقيا، بدلًا من بلدان مثل النرويج". وفي اجتماع آخر بعده، اشتكى من "دخول الآلاف من الهايتيّين إلى الولايات المتحدة المصابين بمرض الإيدز"، وأردف شكوته بأنّ "الزوار النيجيريّين لن يعودوا أبدًا إلى أكواخهم" في إفريقيا. مع وصوله إلى الحكم، سعى بايدن إلى تجاوز نهج ترامب العنصري، والتركيز على تعميق علاقات بلاده مع القارة، التي تبدو كشريك جيوسياسي محتمل للولايات المتّحدة في العقود المقبلة.في ديسمبر 2022، استضافت الولايات المتّحدة أوّل قمة لزعماء الولايات المتحدة وإفريقيا منذ عام 2014. ودُعي رؤساء دول من 49 دولة إفريقية والاتحاد الإفريقيّ إلى واشنطن، كخطوة لتعزيز فرص إعادة التواصل مع إدارة بايدن. ولتأكيد التزامها تجاه إفريقيا، وعدت الولايات المتحدة بإرسال 55 مليار دولار إلى القارة على مدى السنوات لـ3 المقبلة لمبادرات تحسين الرعاية الصحية، والتخفيف من مخاطر تغير المناخ، وتعزيز التجارة والاستثمار وإنشاء برامج لمساعدة سيدات الأعمال.وبينما لم يقم بايدن بزيارة القارة، فقد سافرت السيدة الأولى جيل بايدن ونائبة الرئيس كامالا هاريس، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومسؤولون آخرون في الإدارة، إلى القارة في مناسبات عدّة، مؤكّدين الأهمية التي توليها واشنطن لعلاقاتها الإفريقية.استدراك الخسائر في الوقت بدل الضائعبالتوازي مع تراجع الوجود الغربيّ في القارة السمراء، كثّفت روسيا، وخصوصًا الصين، من مبادراتها الاقتصادية والثقافية اتّجاه الدول الإفريقية.بلغت التجارة بين الصين وإفريقيا 254 مليار دولار في عام 2021، أي 4 أضعاف التجارة بين الولايات المتحدة وإفريقيا، وفقًا لمعهد الولايات المتحدة للسلام، وهو منظمة غير حزبية وغير ربحية أسسها الكونغرس.وتعدّ الصين أكبر مستثمر أجنبيّ مباشر في إفريقيا، بما يقرب من ضعف مستوى الاستثمار الأميركيّ المباشر في القارة. كما أنّ الصين أكبر مقرض للدول الإفريقية، وغالبًا ما تقدّم قروضًا بشروط أفضل بكثير من تلك التي يقدمها المقرضون الأميركيون.ما دفع بأميركا إلى استثمار 250 مليون دولار في ممر للسكك الحديدية لنقل المعادن من المناطق غير الساحلية في زامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، إلى لوبيتو، ميناء أنغولا على المحيط الأطلسي، في محاولة لمواكبة الصين التي استثمرت عشرات المليارات من الدولارات في أنغولا.ومع تزايد القلق الأميركيّ من نفوذ الصين، التي تعتبرها واشنطن التهديد الأكبر لأمنها القومي، بدأت سلسلة الانقلابات التي انتقلت من دولة إفريقية إلى أخرى، تُسقط شركاء فرنسا وغيرها من الدول الأوربية في هذه البلاد، كأحجار الدومينو، ما تطلّب من بايدن التركيز بشكل أكبر على الملف الإفريقي.ويرى الخبير في السياسات الإفريقية، خالد الفكي، في حديثه إلى منصّة "المشهد"، أنّ "الولايات المتّحدة استشعرت خطر التمدد الروسيّ والصينيّ والتركيّ في دول الساحل والغرب الإفريقي، لذا فهي تسعى إلى فتح آفاق جديدة لعلاقاتها مع الدول الإفريقية، من خلال تمكين هذه الدول عبر مشروعات اقتصادية في البنى التحتية، خصوصًا بعد فشل زيارة معلنة سابقًا للرئيس بايدن إلى إفريقيا".ويضيف الفكي، "لذلك فقد شملت زيارة بلينكن دولًا تكاد تكون أقرب إلى الوسط والغرب الإفريقي".ويعتقد الفكي بأنّ "واشنطن تكاد تكون فقدت السيطرة أو القدرة على الإمساك بملف دول الساحل، أو المطلة على شرق إفريقيا في السودان وأريتيريا وإثيوبيا وجيبوتي، في ظل التزاحم والتدفق الكبير من قبل الدب الروسيّ والتنّين الصيني، وسط محاولات تركية حثيثة أيضًا للدخول إلى المنطقة".واشنطن تتحسس مكان الضعف الأوربيفي أواخر التسعينيات، تحولت معظم الدول الإفريقية من مستعمرات أوروبية إلى دول مستقلة. وشكّلت بعضها مثل جنوب إفريقيا وبوتسوانا، حكومات منتخبة ديمقراطيًا. وفي بلدان أخرى، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا، استبدلت الحكومات الاستعمارية بأنظمة أخرى.تمتاز القارة السمراء بالعديد من الميّزات التي من المحتمل أن تجعل منها قوّة عالمية بثقل مفرط في المستقبل القريب، فالنموّ السكانيّ السريع في القارة التي تُعتبر من أكبر الكتل التجارية في العالم، وثرواتها الكبيرة من الموارد الطبيعية، ووزنها السياسيّ الكبير في الأمم المتحدة، وغيرها من العوامل، تزيد من بريقها في أعين القوى العالمية العظمى.لكن، مع ذلك، لا تزال دولها تعاني الكثير لناحية معايير الحياة الكريمة والتطور العلمي والصحي والتقني وغيرها. فمثلًا لا يزال 600 مليون شخص في القارة يعانون نقص الكهرباء، وملايين آخرين من انعدام الأمن الغذائي، ناهيك عن مشاكل الإسكان والنقل والبنية التحتية وما إلى ذلك.تنتهج أغلب الحكومات في الدول القومية في القارة في علاقاتها الدولية سياسات أكثر براغماتية، بشكل مغاير للمقاربات التقليدية القائمة سابقًا على "الاحتضان" أو الارتماء في حضن دولة بوجه أخرى.اعتادت الدول الغربية على مخاطبة إفريقيا بلغة "تعزيز الديمقراطية" وإدانة الانقلابات العسكرية في أماكن مثل النيجر والغابون، بينما كانت تتعامل مع الديكتاتوريات الإفريقية المتحالفة معها. فالولايات المتحدة التي رفعت شعار تعزيز الديمقراطية في القارة، كانت في الوقت نفسه، تحافظ على أفضل العلاقات مع زعماء يعتبرهم الأفارقة مستبدّين وأحد أسباب ويلاتهم.مؤخّرًا، قامت دول إفريقية فعلًا بتغيير تحالفاتها. أدارت مالي وبوركينافاسو ووسط إفريقيا ظهرها لفرنسا، متّجهة إلى روسيا وربّما تركيا. وعلى عكس إفريقيا الأنجلوسكسونية، التي تتمتع بمناخ سياسيّ مستقرّ نسبيًا، فإن إفريقية الفرانكوفونية باتت تشهد تقلّبات سياسية متزايدة ومثيرة للقلق.وأدّى تعاظم المشاعر المعادية لفرنسا إلى حدوث انقلابات في بوركينا فاسو وغينيا ومالي ومؤخرًا في النيجر.ويشرح الخبير في الشأن الإفريقي، عبيد أمجين، في تصريحات إلى منصّة "المشهد"، أنّ "الوزير بلينكين قرر إجراء جولته الأخيرة في غرب إفريقيا، بعد الامتناع الفرنسي عن السير ضمن بوارج القيادة الأميركية في البحر، ولم يكتفِ وزير الخارجية الأميركية بذلك، بل قاسمته المهمة السفيرة ليندا توماس غرينفيلد، وهنالك اعتقاد متداول بأنّ أميركا تتحسس مكان الضعف الأوروبيّ في المنطقة قبل رسم استراتيجيتها المعدّلة، والتي لا تستهدف منافسيها التقليديّين كالصين وروسيا فقط، بل تحاول من خلالها احتواء الحكومات الإفريقية التي يتزايد داخل أوساط شعوبها، السخط ضد كل ما هو فرنسيّ وأوروبي".ويعتقد أمجين بأنّ "فرنسا التي تغرّد الآن إلى جانب إيطاليا في البحر الأحمر، بدأت تركيز حضورها في منطقة الشرق الإفريقي انطلاقًا من جيبوتي، تاركة الباب واسعًا أمام فاعلين جدد من فئة الكبار في منطقة الساحل والغرب الإفريقي، فهي لا تترك أثرًا يمكن تأويله بأنها تصارع للبقاء حيث كانت".(المشهد)