منذ نحو 6 أعوام وبعد مباحثات مستمرة على مدار عقود، توصّل العالم إلى اتفاق يهدف إلى عدم تجاوز المتوسط السنويّ لدرجات الحرارة بالقرب من سطح الأرض، إلى ما قبل عصر الثورة الصناعيّة، عُرف باتفاق "باريس للمناخ". لكن منذ ذلك الوقت تتواصل المباحثات بشأن تنفيذ ما جاء في الاتفاق. ويتلخص هدف الاتفاق الرئيس في إبقاء الزيادة بمتوسط درجة الحرارة العالمية عند مستوى أقل بكثير من درجتين مئويتين، فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، ومواصلة الجهود للحدّ من ارتفاع درجة الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية بحلول نهاية هذا القرن، بحسب الموقع الإلكتروني للأمم المتحدة. غير أنه خلال السنوات القليلة الماضية تزايد تشكيك العلماء والخبراء، من بينهم عالم المناخ البريطاني السير بوب واتسون، في القدرة على تحقيق هذه الأهداف مع تزايد الأحداث المناخية المتطرّفة في الكرة الأرضية بشكل ملحوظ، من ارتفاع غير مسبوق بدرجات الحرارة وتزايد حدّة الجفاف، واستعار الحرائق بمختلف أنحاء العالم. كما وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش درجات الحرارة المرتفعة بشكل كبير في خلال عام 2023، بـ"بدء عصر الغليان العالمي"، وانتهاء عصر الاحتباس الحراري، داعيا إلى اتخاذ إجراءات جذرية تتعلق بالتغير المناخي. أمل الطاقة النظيفة وفي خضمّ هذه التحذيرات والتوقعات المتشائمة، خرج خلال ساعات تقرير من الوكالة الدولية للطاقة يبعث الأمل بشأن تحقيق أهداف اتفاق باريس، إذ يقول التقرير الذي يحمل عنوان "خريطة طريق الحياد الكربوني: مسار عالمي للحفاظ على هدف 1.5 درجة مئوية في متناول اليد" إنّ الوصول إلى انبعاثات صفريّة من الغازات الدفيئة بقطاع الطاقة العالمي والحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري، بات أمرا ممكنا بسبب النمو في تكنولوجيات الطاقة النظيفة الرئيسية، رغم أنّ هذا الزخم يحتاج إلى المزيد من السرعة في مجالات عدة. ويرى التقرير أنّ الازدهار السريع للطاقة الشمسيّة والسيارات الكهربائيّة في العامين الماضيين، يسمح بالمحافظة على أكثر أهداف اتفاق باريس للمناخ طموحا، والمتمثل بحصر الاحترار المناخي بـ1.5درجة مئوية، مشيرا إلى أنّ "هذا أمر مهم، لأنّ هاتين التقنيّتين وحدهما تحققان ثلث تخفيضات الانبعاثات بين 2023 وعام 2030 في هذا المسار". ودعت الوكالة الدولية للطاقة في تقريرها إلى تقديم موعد تحقيق الحياد الكربوني في غالبية الدولة المتطورة، 5 سنوات إلى العام 2045 بدلا من 2050، مؤكدة أنّ "العالم قد أخّر لفترة طويلة اتخاذ القرار لتجنّب الخيارات الصعبة". ويعتبر رئيس وحدة التغيّر المناخي السابق بوزارة البيئة في مصر السيد صبري، أنّ تقرير وكالة الطاقة الدولية لم يضف أيّ جديد في ما يتعلق بجهود استخدام الطاقة النظيفة، مكررا خلال حديثه مع منصة "المشهد" النظرة المتشائمة في ما يتعلق بتحقيق هدف الزيادة السنوية في متوسط درجة حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية. على النقيض، يتفق مستشار شؤون المناخ سابقا لدى اليونسكو والأمم المتحدة بدوي رهبان خلال حديثه مع منصة "المشهد"، على ما جاء في التقرير، قائلًا: "ما نشهده من تغيّرات مناخية كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية يرجع بشكل أساسي إلى الأنشطة الإنسانية والبشرية، والتي تسببت في ارتفاع انبعاثات الغازات الدفيئة وأدت إلى تزايد الاحتباس الحراري". ويضيف رهبان: "لم تكن الجهود المنفّذة خلال السنوات القليلة الماضية ترقى إلى مستوى الطموحات. كان هناك تخوفات في ما يتعلق بتحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ، ولا تزال هذه التخوفات قائمة بالفعل. لهذا كان هناك رغبة عالمية كبيرة لتعزيز التحول نحو الاقتصاد الأخضر، ومصادر الطاقة الجديدة والمتجددة، وأن تكون التحولات الصناعية حكيمة في ما يتعلق بالانبعاثات بحلول عام 2050 على أقل في الدول الصناعية". تسريع الجهود ويشير تقرير الوكالة الدولية للطاقة إلى ضرورة أن تصل الاقتصادات المتقدمة إلى صافي انبعاثات صفري في أقرب وقت ممكن، بهدف إتاحة المزيد من الوقت للاقتصادات الناشئة والنامية للمضي قدما في ذات المسار، مؤكدا أن الإنفاق العالمي على الطاقة النظيفة سيرتفع من 1.8 تريليون دولار في عام 2023 إلى 4.5 تريليونات دولار سنويا بحلول أوائل ثلاثينيات القرن الحالي. وتعتبر الوكالة الدولية للطاقة أن تكثيف قدرة الطاقة النظيفة في الاقتصادات قد يؤدي إلى انخفاض الطلب على الوقود الأحفوري بنسبة 25% بحلول عام 2030، مما يقلل الانبعاثات الكربونية بنسبة 35% مقارنة بأعلى مستوى على الإطلاق المسجل في عام 2022. ويرى الباحث في مركز دراسات التنمية والبيئة بلندن أغلب العتيلي خلال حديثه مع منصة "المشهد" أن مسار الجهود العالمية الحالي لتحقيق الأهداف غير كاف، "حيث تتزايد حدة الأحداث المناخية المتطرفة في العالم رغم انتشار استخدامات الطاقة النظيفة والمتجددة". ويضيف العتيلي: "تزايد التطرف المناخي خلال السنوات الماضي، راجع إلى محدودية تأثير هذه التقنيات والإجراءات. فعليا هناك مجهودات يقوم بها العالم، لكن ليس بها أي فاعلية، خصوصا أن النظام العالمي الرأسمالي غير مستعد لاستبدال أدواته الصناعية الحالية سريعا نحو إجراءات تعزز من الاقتصادات الأكثر استدامة". وتُحذّر الوكالة الدولية للطاقة في تقريرها من أن الفشل في تعزيز طموح الحياد الكربوني وتنفيذ الإجراءات بشكل كافٍ من الآن وحتى عام 2030 من شأنه أن يخلق مخاطر مناخية إضافية ويجعل تحقيق هدف 1.5 درجة مئوية يعتمد على النشر المكثف لتقنيات إزالة الكربون، وهي تقنيات باهظة الثمن والتكلفة وغير متاحة على نطاق واسع. ويعني الفشل في التوسع باستخدامات الطاقة النظيفة بسرعة كافية بحلول عام 2030 ما يقرب من 5 مليارات طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ناجمة عن السيارات في الغلاف الجوي كل عام خلال النصف الثاني من هذا القرن، بحسب الوكالة الدولية للطاقة، والتي تضيف: "كما أن فشل تقنيات إزالة الكربون أيضا في الوصول إلى الهدف، يعني أنه لن يكون من الممكن إعادة درجة الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية".ويؤكد هذا مستشار شؤون المناخ سابقا لدى الأمم المتحدة بدوي رهبان قائلا خلال حديثه لـ"المشهد": "يجب أن تتضافر الجهود العالمية فيما يتعلق بطموحاتنا المناخية. يجب على العالم تسريع جهوده لتحقيق الهدف المنشود وألا يضل طريقه خلال هذا العقد الحرج". هل تنتهي الظواهر المناخية المتطرفة؟ ومع تزايد حدة التحذيرات والمطالب بشأن تسريع وتضافر الجهود، يعتقد البعض أن تحقيق الحياد الكربوني على كوكب الأرض سيحدّ من الأحداث المناخية المتطرفة، وهو الأمر الذي ينفيه الخبراء خلال حديثهم مع منصة "المشهد"، إذ يقول بدوي رهبان إنه "عندما نصل إلى الغاية المنشودة، لن تزول الأحداث أو التغيرات المناخية المتطرفة". ويضيف مستشار شؤون المناخ سابقا لدى الأمم المتحدة: "تحقيق الأهداف لا يعني بالضرورة أننا لن نشاهد عوامل مناخية متطرفة في المستقبل، لا يمكن الجزم بأن تطرف المناخ الناجم عن الأنشطة البشرية قد ينتهي سريعا، قد يحتاج إلى عقد على أقل تقدير". ويرى بدوي رهبان أنه "مع تحقيق الحياد الكربوني ستتضاءل الأحداث المناخية المتطرفة. لكن لن تزول العوامل الطبيعية فجأة، هذا واقع مستمر، فمثلا ارتفاع مستويات البحار سوف يدوم ويتواصل ليهدد المدن الساحلية". ويتفق مع هذا الطرح الباحث في مركز دراسات التنمية والبيئة بلندن أغلب العتيلي، مشددا على أن هناك نوعين من التغيرات المناخية، "التغيرات الطبيعية" وأخرى ناجمة عن "الأنشطة البشرية". ويقول العتيلي: "الهدف من تحقيق الحياد الكربوني ليس الحد من الأحداث المناخية المتطرفة، بل من العودة إلى التطرف المناخي الطبيعي، حيث إن تطرف المناخ تزايد بشكل حاد بفعل الاحتباس الحراري الناجم عن الأنشطة الصناعية الإنسانية". ويعتبر الباحث في مركز دراسات التنمية والبيئة بلندن أن "كل الجهود الراهنة تستهدف العودة إلى التغيرات المناخية الطبيعية. لأن البشر لا يمكنهم تغيير الطبيعة، والأحداث المناخية المتطرفة تهدف في الأساسي إلى إعادة التوازن لكوكب الأرض". ويضيف: "البشرية تحت رحمة الطبيعة. كل الجهود المبذولة حاليا هي محاولة من البشر للتحكم في أفعالهم التي تؤثر في الطبيعة، وليس التحكم في الطبيعة المناخية للأرض كما يشاع". ويدعو مستشار شؤون المناخ سابقا لدى الأمم المتحدة بدوي رهبان خلال حديثه إلى مواصلة الجهود العالمية لتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة، جنبا إلى جنب مع العمل على التأقلم مع تغيرات المناخ الطبيعية و"التي سوف تتواصل معنا ويجب التعامل معها".(المشهد)