تعدّ التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية من أهمّ الأحداث التي عرفها تاريخ المعاصر في شمال إفريقيا، بالنظر إلى اعتبارها أول تجربة من هذا الحجم من الأضرار في المنطقة من جهة، ومن جهة أخرى للغموض الذي يكتنفها، خصوصا في مسؤولية الدولة الفرنسية عن إصلاح الآثار الصحية والبيئية المترتّبة عنها. وفي وقت عانت فيه الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية ضربات ثورة التحرير الجزائرية قبل 62 عامًا، سجّلت باريس اسمها ضمن "النادي النووي"، بتفجيرها أول قنبلة ذرية يوم 13 فبراير 1960، تحت اسم اليربوع الأزرق، بصحراء الجزائر الكبرى .البدايات البشعة صباح الثالث عشر من فبراير عام 1960، أرسل الرئيس الفرنسي شارل ديغول رسالة إلى وزير دفاعه بيار ميسمير، يعلن فيها تسجيل بلاده حدثا تاريخيا مهما: فرنسا رابع دولة نووية في العالم.في ذلك اليوم، أطلق ديغول صرخته الاحتفالية: hora. نفذت فرنسا أول تجربة نووية في صحراء الجزائر. دخلت فرنسا مرحلة جديدة أطلقتها عام 1954، بوضع أُسِّ برنامجها النووي الذي شهد إرهاصاته الأولى عام 1935، ولما تزل تعيش أمجاده إلى اليوم، ودخلت الجزائر مرحلة قاتمة بعد تعرضها لأكبر تلوّث إشعاعي في تاريخها، ولما تزل تعيش تبعاته إلى اليوم.اتخذ ديغول قراره بالتأسيس لهذه الخطوة في أكتوبر 1945، بعد شهرين من إلقاء الولايات المتحدة الأميركية قنبلتين نوويّتين على اليابان، ونفّذ بإشراف مباشر منه تجربة بلغت شدة تفجيرها 4 أضعاف تفجير قنبلة هيروشيما. كانت القنبلة النووية الأميركية إيذانا بانتهاء الحرب العالمية الثانية، فيما كانت القنبلة الفرنسية تصريحا علنيا بانضمام فرنسا إلى القوى النووية، بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا.حطّت طائرة الجنرال شارل أييري في الجزائر في يناير 1957، بحثا عن الأرض التي تشهد أولى التجارب النووية. استطلع مواقع المستعمرة الفرنسية آنذاك، ثم حسم قراره بأنّ صحراء تنزروفت الواقعة جنوب البلاد ستكون مسرحا لتلك الاختبارات، بزعم أنها منطقة مهجورة وقاحلة وغير مأهولة.وبمرسوم صادر في الجريدة الرسمية يوم 10 مايو 1957، أعلنت فرنسا تخصيص مساحة تقدّر بـ108 آلاف كيلو متر مربع، على بعد 40 كلم من مدينة رقان، التي كانت آنذاك تشكل جزءا من فرنسا ما وراء البحار، لإنشاء مركز عسكري صحراوي.أُنجزت التحضيرات التقنية، وأتم الجيش الفرنسي كل التجهيزات اللازمة. وفي صباح 13 فبراير 1960، انفجرت أول قنبلة ذرية من البلوتونيوم، بقوة تتراوح بين 60 و70 كيلوطنا، في أول تجربة أطلقت عليها فرنسا مسمى "اليربوع الأزرق"، ثم تتالت التجارب النووية. شهد ذلك العام تفجير 4 قنابل في الجو، فكان "اليربوع الأخضر"، و"اليربوع الأبيض"، و"اليربوع الأحمر".للإشارة إلى أنّ قوة التفجيرات السطحية لمجموع ثماني تجارب، تجاوزت أكثر من مئتين وثلاثين طنا، ويقول الخبراء إنّ تأثيراتها الصحية والجينية، تستمر اثنين وعشرين جيلا .الخرائط والتعويضحتى اليوم، ترفض فرنسا تسليم الخرائط الطوبوغرافية لكشف مواقع دفن النفايات النووية، وتطهيرها من الموادّ المشعة، مدفونة تحت الرمال، بعدما أقرت وزارة الجيوش الفرنسية بدفن شاحنات، وبعض العتاد العسكري الذي استُخدم في الاختبارات النووية، في الصحراء الجزائرية.وما زالت المطالبات الجزائرية بتسلّم كل الوثائق المرتبطة بملف الذاكرة والاستعمار؛ ففي رسالة عشية ذكرى التوقيع على اتفاقيات إيفيان، لوقف إطلاق النار بين قيادة الثورة الجزائرية والحكومة الفرنسية في 19 مارس 1962، أكد الرئيس عبد المجيد تبون العام الماضي، أنّ الجزائر مستمرة في المطالبة بـ"تعويض ضحايا التجارب النووية"، مشددا على أنّ بلاده "لن تفرط مطلقا في حقوقها التاريخية" المرتبطة بالمطالبة باستعادة الأرشيف الوطني المنهوب من فرنسا.وأثار رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق السعيد شنقريحة، خلال استقباله نظيره الفرنسي فرانسوا لوكوانتر في أبريل الماضي، مطلب إعادة تأهيل مواقع التجارب النووية الفرنسية القديمة. وشدّد على ضرورة تسليم الجزائر الخرائط الطوبوغرافية لتحديد مناطق دفن النفايات الملوثة والمشعّة، أو الكيميائية غير المكتشفة لحدّ اليوم.وهو المطلب نفسه الذي تكّرر مطلع يونيو الماضي على لسان الرئيس عبد المجيد تبون، في مقابلة مع صحيفة "لوبوان" (Le Point) الفرنسية.غير أنّ وزير المجاهدين السابق الطيّب زيتوني، صرّح لاحقا بأنّ باريس ترفض تسليم بلده تلك الخرائط الطوبوغرافية، مؤكدا أنّ هذه القضية هي "الأكثر حساسية من بين ملفات الذاكرة (بين فرنسا والجزائر)، وتتطلب إجراءات عملية مستعجلة للتسوية".وسبق للبرلمان الفرنسي إصدار ما يُعرف بقانون "موران" في الخامس من يناير 2010، للاعتراف بضحايا التجارب النووية الفرنسية وتعويضهم، التي شارك فيها نحو 150 ألف شخص، ما بين عسكري ومدني.من جهته، يقول عمار منصوري، الباحث في الهندسة النووية للمشهد: "إنه تم استرجاع خرائط في العشرين من أكتوبر 2007، ولكن بعد فوات الأوان، لأنّ هذه الألغام تتحرك.. أي هناك انزلاق للتربة.. هناك الرياح والرمال وغيرها.. يعني هي ألغام ليست في مكانها المحدد، ولهذا فإنّ هذه الخرائط لا جدوى ولا معنى لها، رغم أنه كان على فرنسا أن تقدم لنا هذه الخرائط خلال الاستقلال".وأضاف منصوري، أنّ 38٪ من ضحايا الألغام في العالم وضحايا الحروب والنزاعات، هم أطفال. وأضاف، أنّ حصول الجزائر على استقلالها لم ينهِ مأساة الاستعمار الفرنسي، الذي استمرت مخلفاته لحدّ الآن، بسبب التفجيرات والألغام. وتأسف على أنّ كل الجرائم طُبّقت على الأطفال، باستعمالهم كجنود وتقتيلهم واغتصابهم واختطافهم، وأيضا تدمير المدارس التي يوجد فيه الأطفال، وأكد أنّ مجلس الأمن أصدر 13 مقررا موضوعاتيا يهمّ الأطفال في الحروب منذ 1996.في هذا الصدد، استعرض الباحث أنواع الأسلحة ضد الدمار الشامل اللا إنسانية، التي استعملتها فرنسا في الجزائر، وهي الأسلحة البيولوجية والكيماوية، وسلاح النابالم، هذا الأخير أخطر سلاح دمّر الإنسان والحيوان والنبات، والتي لها تأثيرات خطيرة تصيب خلايا الجسم، وتتحول لتسبّب السرطان على 20 أو 40 سنة.وأكد أنّ سكان المناطق المتضررة (برقان) من التفجيرات النووية، يعانون لحدّ الآن تشوّهات خِلقية، وقال: «يجب علينا مقارنة أنفسنا بما حصل في العالم في حادثة تشرنوبيل سنة 1986، حيث مات 8 آلاف شخص ثلثهم من الأطفال».نماذج مأسوية عائلة لعروي في مدينة رقان، من بين 60 ألف قتيل وفق إحصائيات أهلية، ما زالت تتوارث الألم والمرض، فعدد من أفراد العائلة أصيبوا بتشوّهات خُلقية نتيجة الإشعاعات النووية في المنطقة. ويؤكد سي عمر لعروي في تصريح مع "المشهد"، أنّ خمسة أفراد من عائلته مصابون بتشوّهات خلقية وأمراض، نتيجة الإشعاعات النووية في منطقة رقان.العائلة تقيم في منطقة بعيدة عن منطقة التجارب النووية، والمغلقة من قِبل السلطات الجزائرية، لكنّ الغبار المتطاير والمتنقل، بسبب العواصف الرملية في المنطقة الصحراوية، نقل معه الإشعاعات النووية، والتي لم تقتصر أضرارها على السكان فقط، لكنها انتقلت أيضا إلى المزروعات والمياه والحيوانات. ولم تتمكن العائلة من تحصيل أيّ حق لمعالجة أفرادها، على الرغم من الملفات التي طرحتها على السلطات الجزائرية والفرنسية.ليست عائلة لعروي وحدها الضحية، فهناك آلاف الضحايا للمحرقة النووية الفرنسية في الجزائر. ففي الفترة الممتدة بين عام 1956 وحتى عام 1967، قامت السلطات الفرنسية بسلسلة تفجيرات نووية، وكانت الحكومة الفرنسية حينها، تحاول اللحاق بالنادي النووي الذي كانت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي ودول أخرى قد بلغته.اعترافات البرلمان والجيشوعن آثار تلك التجارب، وفق ما يوثّقه تقرير مجلس الشيوخ الفرنسي المنشور على موقعه الرسمي، فإنّ تجربة "اليربوع الأزرق السطحية" كانت بقوّة 70 كيلوطنا باستعمال البلوتونيوم، وأدت إلى تساقطات إشعاعية على شرق منطقة رقان بصحراء الجزائر، ثمّ دوران سحابة نووية امتدت إلى نجامينا وعواصم إفريقية أخرى، قبل وصولها في اليوم الثامن إلى مدينة الجزائر.واستغرب المتخصص في التاريخ الحديث والمعاصر لحسن قرود، وصْف الوثيقة البرلمانيّة الفرنسية التفجير النووي بالتجربة الناجحة، وزعمها عدم وجود سكان حينها في المنطقة.وأوضح قرود، في تصريح "للمشهد" ، أنّ خريطة التفجيرات التي أفرج عنها الجيش الفرنسي عام 2014، تحت تأثير الملاحقات القانونية لقدماء العاملين الفرنسيين المتضرّرين، تناقض التقرير البرلماني.وقال المتخصص في التاريخ، إنّ التلوث النووي الفرنسي وصل إلى جنوب إسبانيا وفق وزارة الدفاع الفرنسية، في حين لا يعترف قانون "موران" بالتعويض، إلّا لمن يثبت وجوده في "المنطقة السوداء".اتفاقيات لتطهير مناطق التجارب النوويةمن جانبه جدد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، شكره للجيش الروسي لإسهامه في نزع ألغام المستعمر الفرنسي بالجزائر.ولفت الرئيس تبون، على هامش توقيع العديد من الاتفاقيات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى إمكانية توقيع اتفاقيات مع روسيا لتطهير المناطق التي تمت فيها التجارب النووية للاستعمار في الجزائر.كما أشار رئيس الجمهورية، إلى أنه تم تكريم آخر جنود الفيلق الذي اشتغل على نزع ألغام المستعمر الفرنسي في الجزائر، خلال زيارته الأخيرة موسكو .ويضيف الباحث في التاريخ، أنّ الجزائر، التي ورثت نحو 11 مليون لغم من الاستعمار الفرنسي، نُزع 9 ملايين منها وتم تطهير أكثر من 50 ألف هكتار.وعن مكاسب هذه الاتفاقية يعتبر أنها صفعة جديدة لفرنسا، في ظل الإنكار الذي تسعى دوائر الحنين للماضي الاستعماري الى فرضه، والتي تحاول مقاومة مبدأ إقامة علاقة طبيعية وندّية مع الجزائر، إلى اختلاق حوادث هامشية في مسار المعالجة المسؤولة للملفات المتعلقة بالذاكرة، حيث إنه وبعد مرور ما يزيد عن نصف قرن من وقوع هذه الجريمة الاستعمارية في حق سكان مناطق عدة في الجنوب الجزائري، وما تبعها من إنكار، فإنّ القضية طُرحت خلال الدورة التاسعة من المشاورات السياسة الجزائرية الفرنسية، التي جرت أشغالها في بداية السنة في الجزائر العاصمة.متابعا أنّ التعاون الروسي مع الجزائر لتنظيف المواقع النووية، ومعالجة ضحايا التجارب النووية، سيعزز العلاقة بين البلدين، خصوصا بعد زيارة الرئيس الجزائري إلى موسكو .تهرّب من الجريمةمن جهة أخرى، يرى الباحث في التاريخ أنس مباركي، أنّ اختلافات الطبقة السياسية في فرنسا، حالت دون البتّ النهائي في موقفها الرسمي الواجب نهجه تجاه ملف التفجيرات النووية، وقضيّة الذاكرة عمومًا مع الجزائريين.وقال مباركي في تصريح "للمشهد"، إنّ تسليم خرائط التفجيرات للجزائر، وتنقية خنادقها من التجهيزات والعتاد والموادّ المشعّة المردومة في الأعماق، سيكشفان حجم الجريمة المستمرة ضد الكائنات الحية، ما يودّي إلى تفنيد مزاعم فرنسا بشأن التجارب.وأوضح أنّ قانون "موران" استثنى عمليّا الجزائريين، بإلقائه عبء إثبات الضرر علميّا وطبيّا على عاتق المتضرر من التفجيرات، مع إيداع الملف شخصيّا.ولو كانت هناك إرادة لدى السلطات الفرنسية في استفادة الضحايا الجزائريين من التعويض، لتحاورت مع الجهات الحكوميّة لاستكمال الإجراءات، وفتحت مكتبًا في الجزائر يتولى تنفيذ الخطوات التي تضمّنها القانون، مثلما يعتقد مباركي.(المشهد)