منذ أكثر من 3 أشهر يواصل الفرنسيون الاحتجاجات المناهضة لتعديلات قانون التقاعد، والذي أقره الرئيس إيمانويل ماكرون من دون تصويت الجمعية الوطنية منتصف هذا الشهر، حيث سيتم بموجبه رفع سن التقاعد من 62 عاما إلى 64 عاما.وأثار استخدام المادة 49,3 في الدستور الفرنسي من قبل الحكومة لتمرير إصلاح نظام التقاعد من دون تصويت، غضب المعارضين في الشارع، حيث تتزايد دعوات النقابات والاتحادات العمالية جنبا إلى جنب مع المعارضة السياسية للاحتجاج والإضراب عن العمل اعتراضا على رفع سن التقاعد.وبحسب وزارة الداخلية الفرنسية بلغ عدد المتظاهرين خلال الخميس الماضي فقط، وهو أحد أيام التعبئة التي دُعي للتظاهر فيها، أكثر من مليون شخص، فيما تقول الكونفدرالية العامة للعمل "سي جي تي" إن عدد المتظاهرين بلغ 3.5 ملايين شخص.ارتفاع وتيرة العنفوتحولت التظاهرات إلى أحد أسوأ أعمال العنف في شوارع فرنسا منذ أعوام، حيث شهدت شوارع العاصمة باريس وكذلك مدن أخرى بالبلاد قبل أيام أعمال شغب وعنف تخللها حرق وتكسير منشآت عامة وخاصة واشتباكات مع عناصر الشرطة، ليعلق وزير الداخلية جيرالد دارمانين على ذلك قائلا: "أقصى اليسار واليمين المتطرف يمارسان عنفا شديدا ضد رجال الدرك. أمر لا يوصف ولا يمكن التغاضي عنه".وتنشر وزارة الداخلية الفرنسية عناصر من الدرك والشرطة لمنع أعمال الشغب، لكن ما يطلق عليهم "بلاك بلوك" يحاولون إثارة أعمال الشغب، من خلال إضرام النار في حاويات النفايات وتحطيم واجهات المحلات وإلقاء الحجارة والمفرقعات باتجاه القوى الأمنية، بحسب ما تقول السلطات.المحلل السياسي المقيم في باريس رامي الخليفة العلي، يقول في حديثه مع منصة "المشهد": "التظاهرات التي بدأت قبل 3 أشهر كانت سلمية. ولكن الفترة الأخيرة أخذت منحنى أكثر عنفا لأسباب عدة، منها ما قام به الرئيس ماكرون من إغلاق كل الطرق للوصول إلى حل وسط والاستعانة بمواد الدستور لتمرير التعديلات دون تصويت الجمعية الوطنية". وتابع بالقول: "إمكانية تزايد العنف وانفلات الوضع في الشارع أمر قائم، وذلك وبالنظر إلى التطورات الأخيرة. فضلا عن ظهور جماعات يسارية متطرفة تتخذ العنف منهجا وهي تشارك في التظاهرات وتعمل على تحويلها إلى أعمال عنف"، مشيرا إلى أن السبب الرئيس لحالة العنف في البلاد هو عدم وجود أي قنوات للتواصل من أجل حلول مناسبة.وأعلنت وزارة الداخلية الفرنسية قبل أيام أن نحو 1500 "مخرب" أعضاء ما يسمى "بلاك بلوك"، اندسوا ضمن موكب الاحتجاج في باريس الخميس الماضي، حيث أوقفت أكثر من أكثر من 450 شخصا خلال يوم التظاهرات الأعنف منذ اندلاع حركة الاحتجاج ضد تعديلات نظام التقاعد. ويعتبر الباحث في العلاقات الدولية بمركز جنيف للسياسات الدبلوماسية ناصر زهير أن "موجة العنف التي تشهدها التظاهرات في فرنسا مرشحة للتصاعد، وذلك على الرغم من دعوات الاتحادات النقابية والكونفدرالية العامة للعمل، بالابتعاد عن العنف". لكن زهير عاد ليقول في حديثه مع منصة "المشهد": "دائما ما يكون العنف جزءا من التظاهرات في فرنسا، خصوصا مع ظهور عصابات (بلاك بلوك). لكن هذا العنف قد يتوقف، لكن استمرار التظاهرات والاحتجاجات قد يتصاعد خلال الفترة المقبلة".ومنذ سنوات تُتهم حركة "بلاك بلوك" بإثارة أعمال الشغب والعنف في الاحتجاجات والتظاهرات بفرنسا وبعض المدن الأوروبية، إذ تُعتبر حركة يسارية متطرفة ظهرت في ألمانيا في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وانتشرت بعدها في أنحاء أوروبا.الدفاع عن الديمقراطيةالتظاهرات في فرنسا قد تزداد وطأة في حال انضمام الطلاب إليها، هذا ما أكده المحللون والخبراء في حديثهم مع منصة "المشهد"، إذ يقول الخبير في القانون الدستوري والمحامي في محكمة باريس إيلي حاتم: "ليس فقط الطلاب الذين سينضمون إلى الاحتجاجات (..) ما يحدث على الأرض لا يتعلق بقانون التقاعد فقط، هناك استياء في كل عموم فرنسا من الأوضاع الاقتصادية والسياسية. لقد جاءت تعديلات قانون التقاعد لتشعل فتيل الأزمة".من جهته، اعتبر العلي أن الطلاب سيشاركون في التظاهرات بشكل أكبر خلال الفترة المقبلة، قائلا: "ليس المسألة فقط رفع سن التقاعد. المسألة هي دفاع عن الديمقراطية كما يرى الكثير من الطلاب والشرائح الاجتماعية التي تعارض القانون. حتى أولئك الذين يتفهمون متطلبات تعديل نظام المعاشات، باتوا يعتقدون أن الطريقة التي مارس بها الرئيس سلطاته وأقر فيها القانون هي إجبار للفرنسيين وبالتالي ذلك مرفوض. الآن الطلاب يدخلون على الخط وأتوقع ذلك من يوم الثلاثاء القادم". ومن المقرر أن يكون الثلاثاء 28 مارس، يوم تعبئة جديد للتظاهرات في فرنسا، حيث دعت الكونفدرالية العامة للعمل والنقابات العمالية إلى يوم عاشر من الاحتجاجات والتعبئة ضد تعديلات نظام التقاعد.في المقابل، يرى الباحث في مركز جنيف أن مسألة انضمام الطلاب إلى الاحتجاجات لا تزال بعيدة، غير أن تصاعد حدتها سيدفعهم إلى الانضمام بكل تأكيد، مضيفا: "الطلاب غير معنيين أو لديهم أي اهتمام بتعديلات نظام التقاعد(..) لكن مع تزايد دعوات الأحزام السياسية والمعارضة والنقابات، يمكن أن ينضموا إلى هذه التظاهرات".هل يتراجع ماكرون؟عقب مشاركته بقمة للاتحاد الأوروبي في بروكسل الجمعة الماضي، أشار الرئيس الفرنسي إلى أنه لن يرضخ للعنف، وسيمضي قدما في الإصلاحات المتعلق بقانون المعاشات الجديد، قائلا "فرنسا لا يمكن أن تصل لطريق مسدود(..) لن نقدم للعنف شيئا، أندد بالعنف لأقصى حد".الخبراء والمحللون في حديثهم مع "المشهد" استبعدوا أن يتراجع إيمانويل ماكرون عن قراره في الوقت الراهن على الأقل، حيث يقول ناصر زهير: "حتى هذه اللحظة ليس متوقعا أن يتراجع عن التعديلات التي أقرها. يبدو أنه متمسك بموقفه وهذا ما أظهره حينما كان في بروكسل(..) لكن من خلال التجارب السابقة وتظاهرات السترات الصفراء، يبدو أن ماكرون يمكن أن يتراجع بشكل أو بآخر عن مثل هذه التعديلات، ولكن حتى الآن لا يزال يتمسك بموقفه".وقبل ما يقرب من 5 أعوام شهدت فرنسا موجة احتجاجات حاشدة، حمل المتظاهرون فيها اسم "الستر الصفراء" وذلك بعد خروجهم إلى الشوارع مرتدين الستر الخاصة بالرؤية الليلية لسائقي السيارات، منددين بارتفاع أسعار الوقود وتكاليف المعيشة، ومطالبين برفع الحد الأدنى للأجور والتراجع عن الإصلاحات الضريبية. وأجبرت هذه التظاهرات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على طرح إصلاحات جديدة اعتمدت على نقاشات مجتمعية على مستوى البلاد ضمن مبادرة "الحوار الموسع" التي شملت رؤساء بلديات ومسؤولين وطلاب وعمال ومفكرين.من جهته يعتبر رامي الخليفة العلي أن الخيارات المتاحة أمام الرئيس ماكرون صعبة، و"إمكانية التراجع عن تعديلات نظام التقاعد سوف يكون لها تكلفة سياسية باهظة للغاية"، قائلا: "ماكرون رهن تاريخه وفترة رئاسته الحالية بتعديلات قانون. وبالتالي إذا كان الرئيس سوف يتراجع عن ذلك، فسيكون نتيجة لتطورات حادة في الشارع الفرنسي، لكن ما دون ذلك فإنه سوف يكون متمسكا برفع سن التقاعد". وتابع المحلل السياسي حديثه بالقول: "أعتقد أن الأمر ليس كله بيد الرئيس ماكرون حاليا. إذا تزايدت حدة الاحتجاجات، وهذا ما يبدو أنه يحدث الآن، ونجحت الحركة الاحتجاجية بشكل واسع في كافة الأنحاء والقطاعات، باعتقادي سيكون هنالك احتمال أن يتراجع الرئيس". الخروج من الأزمةالمعادلة الحالية أصبحت معادلة صفرية، ويبدو أن الصراع بين ماكرون والمعارضة تحول إلى صراع تكسير عظام، حسبما يقول العلي الذي يضيف: "بالتالي هل هنالك إمكانية للوصول إلى حل وسط؟ تبدو هذه الاحتمالية ضعيفة للغاية إذا أخذنا بعين الاعتبار إصرار النقابات والمعارضين في المضي قدما في احتجاجاتهم(..) حتى الآن ليس هناك أي أفق لإيجاد حل وسط والخروج من الأزمة سريعا خلال الأيام القادمة". بدوره يرى الباحث في العلاقات الدولية بمركز جنيف ناصر زهير أن حل الأزمة الراهنة يأتي بتنازلات مشتركة من كلا الطرفين، قائلا: "يجب أن يكون هناك تنازلات من ماكرون والنقابات من أجل التوصل إلى تسوية للخلافات حول القانون أو البنود الأخرى(..) اتجاه الرئيس لحل الحكومة قد لا يرضى المتظاهرين أو النقابات، خصوصا أن المشكلة ليست في الحكومة، والقانون الذي تم إقراراه هو السبب، لذا لا أتوقع حل الحكومة الآن، ولكن يمكن أن يحدث ذلك حال ذهب إلى خيار حل البرلمان وانتخابات مبكرة".وقبل أيام، أكد الرئيس الفرنسي أنه لا ينوي حل البرلمان ولا التعديل على حكومة اليزابيث بورن، وذلك بعد ساعات من نجاة الحكومة من حجب الثقة في الجمعية الوطنية.بدوره، يضيف زهير أن الأزمة الراهنة تتجاوز مسألة تعديل أو تغيير الحكومة، قائلا: "الأزمة سوف تستمر على الأقل في الأمد القصير، ماكرون يراهن على تراجع حدة الاحتجاجات حتى تنتهي في نهاية المطاف. لكن النقابات والأحزاب تراهن على زخم أكبر خلال الفترة المقبلة. وبالتالي فرنسا مقبلة على كافة الاحتمالات". ويتفق مع ذلك، الخبير في القانون الدستوري والمحامي في محكمة باريس إيلي حاتم، إذ يقول: "لن يلجأ ماكرون لحل البرلمان، لكنه يستطيع تعديل الحكومة وهذا قد يعتبر تلاعبا بالرأي العام، ولا أعتقد بأن الرأي العام والشعب الفرنسي سيقبل فقط بتعديل الحكومة وتغيير بعض الوزراء(..) المشكلة راسخة وتتعلق بالسياسات التي اتخذتها فرنسا ورضوخها لتبعية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والابتعاد عن الشرق".(المشهد)