في وقت كان فيه العديد من المراقبين ينتظرون تحسّن العلاقات من جديد بين الجزائر وفرنسا، ظهرت في الساحة السياسية الفرنسية قضية جديدة تتعلق بملف المهاجرين، حيث تحركت العديد من الأوساط الفاعلة، للمطالبة بضرورة مراجعة اتفاقية ثنائية تهمّ المهاجرين الجزائريين تعود لعام 1968.يضاف إلى تجميد مشروع الزيارة التي كان من المقرر أن يقوم بها الرئيس عبد المجيد تبون إلى باريس منذ مايو الماضي.ما هي اتفاقية 1968؟وُقّعت الاتفاقية في 27 ديسمبر 1968 بين البلدين، وترسي نظاما قانونيا منفصلا يخضع له الجزائريون المقيمون والعاملون في فرنسا وعائلاتهم، بخلاف مواطني دول أخرى، على صعيد حقوق التنقل والتوظيف والإقامة على التراب الفرنسي.وكانت الاتفاقية تسمح بداية للجزائريين، بتقديم جواز سفر على الحدود لدخول فرنسا، من دون الحاجة إلى تأشيرة، وأُنشئت بموجب هذه الاتفاقية شهادة الإقامة، وهي تصريح إقامة خاص بالمواطنين الجزائريين، تصل مدته إلى عشر سنوات، إضافة إلى حق التجميع العائلي وجلب أفراد العائلة للإقامة في فرنسا، وحرية تأسيس نشاط تجاري وممارسة مهنة حرة، وحرية التنقل وحق الحماية الاجتماعية.ولدواعٍ سياسية وأمنية، جرت مراجعة هذه الاتفاقية ثلاث مرات متتالية، أعوام 1986 و1994 و2001، من دون أن يُمسّ بجوهرها والمبادئ الأساسية، أو بالامتيازات الخاصة التي يتمتع بها الجزائريون.نقاش متصاعد وكان سفير الجزائر في فرنسا سعيد مويسي، قد عقد مساء الجمعة، اجتماعا مع رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي جيرارد لاريشر، لبحث مسائل تخص العلاقات الثنائية وقضايا التشريع البرلماني، على خلفية تصريحات لاريشر الأربعاء الماضي، التي طالب فيها "بضرورة إعادة النظر في المعاهدة المبرمة مع الجزائر في عام 1968 بشأن قضايا الهجرة"، والمتعلقة بدخول وإقامة الجزائريين في فرنسا، وإنهاء امتيازات خاصة كان يتمتع بها الجزائريون حصرا، بموجب تلك الاتفاقية، وهو المقترح نفسه الذي كان قد طرحه رئيس الحكومة السابق إدوارد فيليب.من جهته يرى الخبير الاستراتيجي الدكتور نبيل كحلوش في تصريح لــ"المشهد"، أنّ التحرك الدبلوماسي الفرنسي سيكون له عواقب وخيمة، وقد يتسبب في توتر سياسي واقتصادي يضع العلاقات بين البلدين على "حافة الإنفلات" على حد قوله.وقال إنّ الترويج الفرنسي جاء في شكل حملة تسبق زيارة الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون باريس، خلال النصف الثاني من يونيو المقبل، ما يعطي انطباعا عاما بوجود رغبة لدى جهات فرنسية في استغلال هذه المناسبة، لمزيد من توجيه الرأي العام وشحنه ضد المهاجرين عموما، والجزائريين، خصوصا، كونهم يمثلون كبرى الجاليات هناك.ذهب كحلوش إلى أكثر من ذلك، بقوله إنّ الاقتصاد الفرنسي لا يمكنه أن يصمد أسبوعا من دون مساهمة اليد العاملة المهاجرة، مشيرا إلى أنّ الأطباء والمهاجرين يمثلون وحدهم 30 في المئة من العاملين في مستشفيات البلد الأوروبي، وعلى رأس هؤلاء الجزائريون.وما يحزّ في نفوس بعض الفرنسيين، وفقا للمتخصص في الشأن الإستراتيجي، هي الامتيازات التي جاءت في اتفاق 1968، موضحا أنّ "الحملة" تصاعدت حدتها بسبب المتاعب الاقتصادية والمالية التي تعانيها باريس، كارتفاع الدين العام إلى ثلاثة تريليونات يورو (3.22 مليار دولار)، ومشكلات صناديق التقاعد، ولذلك تضغط للحصول على امتيازات اقتصادية ومالية جزائرية.وبحسب رئيسة مؤسسة النخبة الجزائرية للدبلوماسية رندة همال فإنّ "الطرح الحالي السائد في فرنسا، هذه الأيام، حول موضوع المهاجرين واتفاقية 1968، يختلف تماما عن المحادثات التي أجراها رئيسا البلدين في لقائهما في الجزائر قبل أشهر".وقالت همال في تصريح لـ"المشهد": "المطالبون بتعديل أو إلغاء اتفاقية 1968 يختبئون وراء مخطط يهدف إلى إفساد الزيارة المرتقبة للرئيس عبد المجيد تبون إلى فرنسا، لأنهم يدركون جيدا بأنّ الجزائر لا تقبل أبدا المساومة حول مواضيع تهمّ مواطنيها في الخارج".وأضافت همال "نزعة أصحاب اليمين الفرنسي المتطرف لا تحتاج إلى تفسير، فهؤلاء ينظرون إلى جميع المهاجرين بعنصرية مفضوحة، ويتألمون كثيرا بالنجاحات المُبهرة التي يحققونها في فرنسا، لذلك تجدهم دوما يحركون المشاعر الغاضبة للمواطنين نحوهم، خلال مختلف المحطات الانتخابية".وتابعت أنّ "الجزائر في الظرف الراهن، تحاور الجميع من موقع قوة، وتملك العديد من الخيارات التي تجعلها بعيدة عن أيّ ضغط يكون مصدره باريس".رمزيات سياسية من جانبه وقّع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مرسوما رئاسيا جديدا، أعاد بموجبه مقطعا إلى النشيد الوطني الجزائري، يتضمن إشارة إلى فرنسا، في ظل تفاقم مناخ لافت من المناكفة السياسية والتاريخية بين البلدين. وينص المرسوم، الذي نُشر في الجريدة الرسمية، على أنه "يُؤدى النشيد الرسمي في صيغته الكاملة، كلمات وموسيقى، بمقاطعه الخمسة"، في المناسبات السياسية والعسكرية التي تستدعي ذلك، كإحياء الذكريات الرسمية التي يحضرها رئيس الجمهورية، والاحتفالات والمناسبات الملائمة، وهو ما يعني إلزامية تأدية مقطع كان قد حُذف سابقا من نصّ النشيد لاعتبارات سياسية.ويأتي هذا المقطع المحذوف سابقا والمعاد حاليا، على ذكر فرنسا بصيغة يتوعد فيها ثوار الجزائر باريس، ويقول: "يا فرنسا قد مضى وقت العتاب، وطويناه كما يُطوى الكتاب، يا فرنسا إنّ ذا يوم الحساب، فاستعدي وخذي منا الجواب، إنّ في ثورتنا فصل الخطاب، وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر"، والذي كان قد حُذف سابقا لإبعاد الحرج السياسي مع باريس.نشيد استثنائي ويعدّ النشيد الوطني الجزائري الذي كتبه الشاعر الجزائري مفدي زكريا خلال فترة سجنه في الخمسينيات، ولحّنه الموسيقار المصري محمد فوزي، الوحيد في العالم الذي يتضمن ذكر دولة أخرى.ويعدّل القرار، الذي يشدد على عزف وتأدية المقاطع الخمسة (بذكر العدد) للنشيد الوطني الجزائري، مرسوما سابقا كان قد صدر عام 1986، لم يشدد على المقطع الخامس، وسمح بإلغائه من النص الرسمي للنشيد الذي وزعته السلطات في تلك الفترة، حيث أُلغي المقطع الذي يتضمن ذكر فرنسا، وفي عام 2007، حُذف المقطع من النشيد الوطني الجزائري من الكتب المدرسية، ما أثار استياءً كبيرا في الجزائر حينها.ويسمح المرسوم الرئاسي الجديد على صعيد آخر، بعزف التوليفة الموسيقية المختصرة للنشيد الوطني في مناسبات أخرى، كاستقبال رؤساء الدول خلال الزيارات الرسمية، أو الخطابات التي يوجهها الرئيس إلى الأمة، والمراسيم العسكرية بوزارة الدفاع وغيرها.من جهته يذكر الباحث في التاريخ الجزائري لحسن قرود في تصريح "للمشهد"، أنه في أبريل عام 1955، أَلَّف (مفدي زكريا) كلمات النشيد الوطني، وهو في سجن "بربروس" في العاصمة الجزائرية، بطلب من "أصدقائه في النضال ضد المستعمر الفرنسي"، وهم رباح لخضر، وعبان رمضان، ويوسف بن خدة، كان في ذلك الوقت نشيدا للثورة الجزائرية.وتابع قرود، "تؤكد شهادات مفدي زكريا وبعض المجاهدين (قدماء المحاربين) الجزائريين، أنّ مفدي زكريا اهتدى إلى فكرة غريبة في كتابة النشيد الوطني، كونه لا يملك قلما ولا أوراقا للكتابة في زنزانته، فقرر أن يُدوّنه "بدمه" على الحائط، استخرجه من ذراعه الأيسر ليكتب نشيد بلاده بيده اليمنى، ومن هنا "وُلد نشيد الثورة وشهدائها" بـ5 مقاطع، الذي يبدأ بـ"قسما" وينتهي بـ "فاشهدوا". تأجيل مستمر للإشارة كانت باريس قد اقترحت أن تجرى الزيارة بين الثاني والرابع من يونيو الجاري، لكنّ الجانب الجزائري لم يوافق على هذا التاريخ المقترح، وفضّل إرجاء الزيارة التي كانت مبرمجة أولا في الثاني من مايو الماضي، قبل أن يجرى الاتفاق قبل ذلك بموجب مكالمة هاتفية بين الرئيسين عبد المجيد تبون، وإيمانويل ماكرون على تأجيلها، بسبب الاضطرابات العمالية في فرنسا احتجاجا على قانون التقاعد في تلك الفترة.وكشفت تقارير إعلامية عن أنّ زيارة الرئيس الجزائري، التي كانت منتظرة منتصف الشهر الحالي، ستتأجل إلى الخريف القادم، من دون أن تكشف عن الطرف الذي طلب ذلك، لكن تحدثت عن فرضيات مختلفة للقرار سبق وأن طُرحت في تبرير التأجيل السابق، غير أنّ اللافت هو الإجماع على مناخ معقّد بين البلدين، لا يسمح بتعزيز التقارب بينهما.ونقلت إذاعة "أوروبا 1" عن حصولها على معلومات تفيد بأنّ "الزيارة التي كان يُنتظر أن يقوم بها الرئيس الجزائري إلى فرنسا، ستتأجل إلى أشهر أخرى، وأرجعت السبب إلى ما أسمته بالأجندة والمناخ غير المناسب"، في إشارة إلى تطورات طرأت في الآونة الأخيرة، عملت على تعكير الجو بين البلدين، في حين التزم الطرف الجزائرى الصمت إزاء هذه التكهنات.(الجزائر - المشهد)