حكمٌ قضائي قلب مستقبل الحياة السيّاسية في فرنسا، رأساً على عقب، وأعاد خلط الأوراق قبل الانتخابات الرئاسيّة التي يحين موعدها بعد أقلّ من عامَين، وزلزل أرض حزب اليمين المتطرّف، وطرح علامات استفهام وغيّر قواعد اللعبة إلى قبل وبعد. فما هو مصير هذا الحزب، بعد القرار الذي وُصف بالصّادم والكارثيّ من جانب المُحلّلين، وهل "سيُسجن" مثل رئيسته مارين لوبان ويُمنع من التقدّم وربّما حكمه يكون إعداماً من جانب ناخبيه؟ بين ليلة وضحاها، وجدت زعيمة اليمين المُتطرّف نفسها محرومة من الترشح إلى الانتخابات الرئاسيّة عام 2027، بعد أن أصدرت محكمة باريس حكمًا من الدرجة الأولى بسجنها 4 سنوات، اثنتان منها نافذتان، بوضع سوار إلكتروني والبقاء في المنزل مع أوقات محددة للخروج، وبالحرمان من الترشح 5 سنوات وغرامة مقدارها 100 ألف يورو.فماذا يعني هذا الحكم؟ وكيف سيكون شكل الانتخابات المقبلة من دون مشاركة المرأة التي جسدت اليمين المتطرف في فرنسا لمدة 15 عامًا تقريبًا؟ وهل ستقول وداعًا لمستقبلها السياسي؟لوبان غيّرت جوهر حزب اليمين المتطرفّ مستشار مؤسس حزب الجبهة الوطنية الفرنسي جان ماري لوبان، المحامي إيلي حاتم، تحدّث لمنصّة "المشهد" عن تاريخ هذا الحزب ومؤسسه الأب، وتحدث عن مصير الحزب اليوم، قائلاً: "عندما وُلد الحزب الذي كان يُعرف بـ"الجبهة الوطنية"، كان الناخبون يصوّتون للمؤسس جان ماري لوبن، وكانوا يعبرون عن ذلك بوضوح، مشدّدين على فكرة أنهم ينتخبون شخص لوبان وليس الحزب".وتابع قائلًا: "عندما ظهرت مارين لوبان في الساحة، كان مُتوقعاً أن تكمل مسيرة والدها بالطريقة نفسها والنهج نفسه، وهو الذي عمل على بناء هوية واسم وعلامة تجاريّة له داخل الحزب، ولكن تدريجيًا، بدأت مارين تغيّر الأفكار الأساسية والجوهريّة للحزب، وقد نجحت في جذب أصوات كثيرة، من بينها "التجمع من أجل الجمهورية"، الذي أسّسه جاك شيراك، وقد حاولت بذلك الاقتراب من "اليمين التقليديّ" وإلغاء اليمين المتطرف الذي أسسه والدها".أمّا بالنسبة للحكم الذي صدر على لوبان، فوصفه حاتم بالكارثي "لأنه يُعتبر تدخلًا من السلطة القضائية في السياسة، وهذا يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات، كما أن القضاة أصبحوا يحكمون كأن لديهم سلطة مثل السلطتين التشريعية والتنفيذية، والجميع يعلم أن القضاء مهمته فقط تطبيق القوانين لا سنّها أو التدخل في عمل السلطة التنفيذية".أما بشأن تفاصيل التّهمة التي وُجهت إلى لوبان، فأوضح حاتم أنها "فعلًا استغلت الأموال التي يخصصها البرلمان الأوروبي للنواب الأوروبيين، فقد أنفقتها على حزبها داخل فرنسا وعلى أشخاص لا يعملون بنسبة 100% للنواب الأوروبيين، بل كانوا يعملون غالبية الوقت للحزب وقليلًا للبرلمان، وهذا يُعتبر استغلالًا للموارد، لأن البرلمان الأوروبي يدفع لموظفين يعملون للنواب، لا لأحزابهم".لوبان مُذنبة لكنها ليست الوحيدة واللعبة سياسية إلا أن حاتم لفت إلى أن التجمع الوطني "ليس الوحيد الذي فعل ذلك، بل سبقته أحزاب أخرى مثل حزب الوسط وحتى الأحزاب اليسارية"، مضيفًا "كمحامٍ، أرى أن الحزب ضحية لأنّ التهمة ليست حقيقيّة، والجميع كانوا يفعلون الشيء نفسه، ولكنه هو الذي تم اتهامه، واللعبة هنا سياسية، إذ يُحاكَم بسبب أمور سياسية".وتابع قائلًا: "لم يكن من المفترض أن يحكم على لوبان بالسجن مثلما طالبوا بحبس نيكولا ساركوزي لمدة 7 سنوات، كما أن المدعي العام كان صارمًا، لكنه لم يسلبه حقه في الترشح، و في قضية لوبان يبدو كأن القضاء يستخدم القضية لتصفية أمور سياسية".لوبان ستبتعد عن الساحة السياسية إلى ذلك، توقع حاتم أن تبتعد لوبان "عن الساحة السياسية، خصوصا أننا نقترب من الانتخابات. لأنه حتى لو حدث استئناف، فإن الوقت سيكون قصيرًا جدًا، وإذا حدث الاستئناف بعد عام، فستكون الانتخابات في أكتوبر وسيكون من الصعب إدارة حملة انتخابية فعالة في فترة قصيرة".ولفت إلى أن:اليمين التقليدي يتراجع، وهناك تحالفات جديدة تتشكل.السياسي المُخضرم دومينيك دوفيلبان ستكون له فرصة، لأنه كان رئيسًا للوزراء ولديه سياسة اقتصادية واضحة وهو معتدل ويمثل عهد جاك شيراك، وموجود بقوة في الساحة السياسية.إدوار فيليب يمثل إلى حدّ ما ماكرون، ولكن مع التراجع الشعبي للأخير، من الصعب أن يتقدم فيليب إلى الدورة الثانية حتى لو فاز في الدورة الأولى.هناك احتمال ثالث، وهو وزير الداخلية برونو روتايّو الذي يسعى للسيطرة على حزب الجمهوريين واستخدام قضية الهجرة لجذب الأصوات.ضربة قاضية لـ"اليمين المتطرف" وبارديلّا غير مؤهّل ولفت حاتم في هذا السّياق، إلى أن "حزب مارين لوبان لا يضمّ شخصيات مهمة خلافًا لما كان عليه الأمر في الأيام الخوالي، مثل روجيه هوليندر وجان كلود مارتينيز، وهذان وغيرهما لم يبدأوا في الحزب في سن العشرين أو الخامسة عشرة، بل كانت لديهم شهادات، مثل مارتينيز الذي كان يُعتبر من أبرز الأساتذة في فرنسا في مجال القانون الدستوري".هذا النقص في الشخصيات المهمة على حد وصف حاتم، جعله يتوقع أن تكون ضربة القرار القضائي بحقّ لوبان، "ضربة قاضية"، و"نهاية" حزبها، لأن الشخص الوحيد البارز على رأسه بعد لوبان، هو جوردان بارديلّا، وهو "شاب وليس لديه الخبرة السياسية أو الأكاديمية اللازمة، ويحاول استقطاب الجميع والسفر إلى إسرائيل ليظهر نفسه مقربًا من اللوبي، لأنهم يعتقدون أن هناك لوبيًا يهوديًا في فرنسا، ولكن لا يوجد لوبي منظّم ويعتقدون أنه من الضروري التقرب منهم حتى يكون لديهم وسائل إعلام تساعدهم. لكن لا يوجد هذا الشيء، وقد وقعوا في الخطأ".وتطرّق حاتم إلى الانتخابات الأخيرة، معتبراً أن "بارديلا لم يكن يعلم كيفية إدارة الحملة الانتخابية. على الرغم من أنه كان مستعدًا، كانت الحملة ضعيفة ولم تحقق النتائج المتوقعة. حتى الآن، يخاف الجميع من أن يكون جوردان بارديلّا مرشحًا، خصوصًا إذا كان منافسه السياسي المخضرم دومينيك دوفيلبان".القضاء قام بدوره ولا أحد فوق القانون من جهة أخرى، تحدّثت صونيا كريمي، النائبة السابقة وعضو لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الفرنسي، ومندوبة حزب النهضة الفرنسي عن دائرة سيرجي الانتخابية لـ"المشهد"، فقالت إن "الحكم القضائي لم يكن متعلّقًا بالسؤال: هل يمكن لمارين لوبان الترشح للانتخابات؟ بل كان على القضاء أن يبت مسألة: هل قامت مارين لوبان وحزبها باختلاس أموال البرلمان الأوروبي (6 ملايين يورو)، أي أموال جميع المواطنين الأوروبيين، لدفع رواتب موظفي حزبها؟ هذه هي المسألة التي كان على القضاء أن يجيب عنها، وقد فعل".وشدّدت على أن "لا أحد فوق القانون، سواء كان منتخبًا أو مرشحًا، والمنصب السياسي لا يمنح أي امتياز، بما في ذلك أمام القضاء". وسألت كريمي في هذا الإطار، "ما هي نسبة نوايا التصويت التي تجعل الشخص فوق القانون؟".بارديلّا أخطر بكثير من لوبان وفي سؤال عن مدى استعداد بارديلا، لخلافة لوبان، أكدت كريمي أنها لمست شخصيّاً جهوزيته وقالت "إذا رأينا كيف يتصرّف في الجمعية العامة والنضج الذي يتحدث به، هو جاهز ومستعد، على عكس ما أسمعه، وبالمقارنة مع مارين لوبان، فهو أدقّ وأكثر مهارة منها ومقبول أكثر منها بكثير، فكلمات الرّجل منظمة، وجمله مثالية ولغته الفرنسية ممتازة. لذا، أعتقد أن هذا الشخص أكثر خطورة منها".وأضافت: "هذا الرجل سيكسر هاجس النّاخبين الذين يرفضون انتخاب "لوبان المتطرفّة" لأنّها "لوبان" وسيكون هو البديل الذي سيجذبهم من جديد إلى حزب اليمين المتطرّف".وأخيرًا، لا شكّ في أنّ حزب اليمين المتطرّف يشهد أيامًا سوداء في هذه الفترة من مسيرته التاريخية، وفيما يطرح البعض احتمال اندلاع "حرب أهلية" بين المسؤولين التنفيذيين في الحزب في ظل منع لوبان من الترشح إلى الانتخابات بعد أقل من سنتين، يستعد رئيس الحزب جوردان بارديلا لخلافة زعيمته، هو الذي وصف الحكم بحقها بـ"الوحشي".ودعا بارديلا الفرنسيين إلى التظاهر احتجاجًا، فهل يلبي الحزبيون وجمهور الحزب نداء شاب عمره 29 عامًا؟ استطراداً، هل يؤدي ما حلّ بالسيدة لوبان إلى اضطراب عام في فرنسا، أم يكون مصيرها مثل مصير فرنسوا فيّون، الذي أطاحته فضيحة مالية قُبيل الانتخابات الرئاسية في العام 2017، والتي حملت إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه؟(المشهد)