تشهد كواليس السياسة في أنقرة نشاطاً استثنائياً في شكله ومضمونه تتصدره اللقاءات التي عقدها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مؤخراً مع خصوم سياسيين حتى الأمس القريب على إطلاق أوصاف وتهم جدّية بحقّهم، هم والأحزاب التي يمثّلونها.وفرضت نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة مشهداً سياسياً وخريطة طريق جديدين على الرئيس التركي، الذي كثّف من سعيه لتهدئة الأجواء والتراجع عن سياسات الاستقطاب المهيمنة طوال أكثر من عقد على نهجه في التعاطي مع خصومه. ويبدو أن إردوغان نجح إلى حد كبير في إعادة الجسور مع المعارضة مبقياً قنوات الاتّصال معها مفتوحة على مصراعيها، إلّا أنّه أثار بسياسته الجديدة حفيظة شريكه في "تحالف الشعب" الحاكم، دولت باهتشيلي، زعيم حزب الحركة القومية اليميني المتطرف، الذي فضّل التعبير عن استيائه من خلال التهديد غير المباشر.إردوغان والمعارضةشكّل إعلان المكتب الإعلامي للقصر الرئاسي التركي عن لقاء بين الرئيس رجب طيب إردوغان والرئيسة السابقة لحزب "الجيد" ميرال أكشينار بناء على طلب الأخيرة مفاجأة بالنسبة لأعضاء حزبها الذي تأسس على أرضية معارضة "تحالف الشعب" من قبل منشقين عن حزب الحركة القومية. ظهرت أكشينار، التي اضطرت على تقديم استقالتها من رئاسة الحزب بعد النتائج المخيبة للأمل في الانتخابات الأخيرة، في لقائها مع إردوغان بمظهر (لوك) جديد مختلف كلياً عن المعتاد، لتلفت الانتباه بلون شعرها الأشقر ونظاراتها "المودرن" مرسلة إشارة بدء حقبة جديدة في حياتها السياسية، وهي التي قامت بتغيير لون شعرها قبل عقدين حينما استقالت من حزبها الأسبق "الطريق القويم" منضمة إلى "الحركة القومية" بعد سنوات من العمل السياسي في حزب السلطة آنذاك تبوأت خلالها مناصب رفيعة أهمها منصب وزارة الداخلية.لقاء أكشينار وفي حين لم يتم الإعلان عن دوافع الزيارة والحديث الذي دار بين الجانبين خلالها، إلا أن تسريبات حول تقديم أكشينار لبعض الطلبات للرئيس إردوغان انتشرت بشكل كبير في الإعلام التركي، منها طلبها بتعيين نجلها في منصب سفير في دولة خارجية، وتعيينها في منصب وزاري في الحكومة الحالية.ما عزز هذه التسريبات، الرسالة التي قامت مؤسسة حزب "الجيد" أكشينار بإرسالها إلى حزبها مطالبة بإزالة صورها من جميع الأفرع والمكاتب في الولايات التركية، فيما ذهب البعض إلى أبعد من ذلك متّهما إياها بكونها جزءا من خطة السلطة لضعضعة صفوف المعارضة، وبأنّها عادت إلى مكانها الأصلي إلى جانب السلطة بعد اتمامها للمهام الموكلة إليها. ويرى الخبير في السياسة الداخلية التركية، علي كمال إرديم، في حديثه مع منصة "المشهد" أن:عقد أكشينار لقاء مع إردوغان بعد مغادرتها للحزب والسياسة الفعلية، خلق قلقا عاما خصوصا وأنّها أدّعت باستمرار خلال فترة الحملة الانتخابية الرئاسية بأن كمال كيليتشدار أوغلو ليس المرشح المناسب لمنافسة إردوغان.وطالبت بترشيح أحد رؤساء بلديات أنقرة أو اسطنبول وكان لهذه المناقشات تأثيراً على خسارة كيليتشدار أوغلو وحزب الشعب الجمهوري للانتخابات. ويشرح إرديم أنه "بعد الانتخابات العامة، فجّرت أكشينار مفاجأة أخرى بإعلانها عدم دعم رئيسي بلديات أنقرة واسطنبول من حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات البلدية، وهي التي اعتبرتهما سابقاً جديرين بالترشح للرئاسة. بعد كل ما سبق من المدهش طبعاً أن يعقد شخص حوله علامات استفهام جدية من حيث التناقضات في مواقفه في الماض مثل هذا الاجتماع بعد الانتخابات وبعد ترك رئاسة الحزب".زيارة حزب الشعب الجمهوري قام الرئيس التركي بزيارة المقر الرئيسي لحزب الشعب الجمهوري في العاصمة أنقرة، بعد انقطاع لمدة 18 عاماً، وذلك ردّاً على الزيارة التي قام بها رئيس الحزب أوزغور أوزيل الذي خلف كمال كليتشدار أوغلو بعد خسارة الأخيرة للانتخابات البرلمانية والرئاسية الماضية في مايو 2023. فسّرت الزيارة كاستكمال لخطوات "التطبيع السياسي" الذي طالب به أوزيل المنتصر في الانتخابات المحلية الأخيرة، حيث تصدّر حزبه قائمة الأحزاب السياسية في البلاد بالحصول على أعلى عدد من الأصوات وأكبر عدد من البلديات وأهمها. في حديثه مع منصّة "المشهد" كشف مصدر قيادي في حزب "الشعب الجمهوري" شريطة عدم ذكر اسمه تفاصيل اللقاء قائلاً:إردوغان طلب من أوزيل دعمه في موضوع إقرار دستور جديد للبلاد، ليرد عليه زعيم الحزب أن الدستور الجديد ليس مطلباً عاجلاً بالنسبة للأتراك، وأن الأهم حالياً هو الالتزام بالدستور المعمول به وقرارات المحكمة الدستورية. تعديل الدستور التركييبذل إردوغان جهوداً استثنائية من أجل إقرار دستور جديد للبلاد بدلاً من الدستور الذي أقرّه في عام 2017، محوّلاً نظام الحكم من البرلماني إلى الرئاسي. وفي حين يتذرع الرئيس التركي بوجود نواقص في دستوره السابق والحاجة إلى تغيير بعض بنودها، يتّهمهم معارضوه بوقوف رغبته في الترشّح للرئاسة للمرة الرابعة خلف إصراره على تغيير الدستور، الذي ينص على تصفير المدة الرئاسية المحددة بولايتين فقط في حال اجراء أي تعديل في نصوصه. وبحسب القيادي في الحزب فإن أوزيل طالب الرئيس التركي:بوضع لوائح تعيينات رؤساء الجامعات والقضاة وغيرهم من موظفي الدولة رفيعي المستوى بالتشاور والتوافق مع المعارضة.وإقرار زيادة على معاشات المتقاعدين. بالمقابل طلب إردوغان من أوزيل دعم تركيا خلال مؤتمر الأحزاب الاشتراكية. ويرى إرديم أن "إردوغان ومن خلال لقاءاته مع زعماء المعارضة وشخصيّاتها البارزة، والتخفيف من حدة لهجته اتجاههم، إنما يهدف إلى إعطاء صورة للجميع لميله نحو التصالح والاحتضان"، وذلك بعد الخسارة التي مني بها حزبه في الانتخابات البلدية الأخيرة. كما يشير إرديم إلى أن "المكسب الثاني لإردوغان هو إبقاء الجمهور التركي منشغلًا بتفاصيل لقاءاته والجدل الحاصل في صفوف المعارضة ذاتها بين مؤيد للتطبيع مع إردوغان ومعارض لهذه الخطوة التي تعتبر قبلة الحياة بالنسبة له في ظل المخاطر التي تهدد انتهاء حياته السياسية". وأضاف "وبما أن كل مناقشة يمكن أن تصل في بعض الأحيان إلى مستويات الأزمة، فإن هذه اللقاءات وفق استراتيجية إردوغان يمكن أن تفجّر مشاكل جديدة في صفوف المعارضة". وعلمت "المشهد" أن لقاء ثالثاً بين إردوغان وأوزيل سيتم في 20 من يوليو المقبل في ليفكوشيا عاصمة جمهورية قبرص التركية المعلنة من قبل طرف واحد، وذلك خلال الاحتفال باليوبيل الذهبي لتأسيسه.شريك إردوغان منزعج ويتابع حزب "الحركة القومية" شريك إردوغان في الائتلاف الحاكم منذ عام 2015، والقابض على مفاصل استراتيجية في الدولة، خصوصاً في سلكي الأمن والعدل، خطوات الرئيس التركي بالكثير من الحذر لجهة إمكانية الاستغناء عن هذا التحالف الذي بات غير ذي مكسب بعد أن حلّت "الحركة القومية" خامسة في الانتخابات البلدية الأخيرة مع تراجع كبير في أصواتها. في العلن، أعلن حزب الحركة القومية تأييده للقاءات الرئيس إردوغان الأخيرة، مفضّلاً التعبير عن رأيه الحقيقي البعيد عن الدبلوماسية من خلال الرسائل غير مباشرة. وأكثر ما يقلق حزب الحركة القومية في خطوات إردوغان استجابته لضغوط المعارضة حول دعوى قتل زعيم "الذئاب الرمادية السابق"، وهو بمثابة الجناح العسكري للحزب اليمين المتطرف، سنان أتيش، المعروف بمواقفه المعارضة لدولت باهتشيلي، حيث تشير خيوط الجريمة إلى تورّط شخصيات قيادية وبارزة في حزب الحركة القومية فيها. خرج باهتشيلي قبل ساعات من لقاء إردوغان بأرملة المقتول أتيش ليخاطب كتلة حزبه البرلمانية واضعاً يده على ملف وفي إصبعه خاتم مكتوب عليه "الله معي وهو كاف"، في رسالة اعتبرها البعض بأنها موجّهة إلى إردوغان على شكل تهديد بإلغاء التحالف وفتح ملفّات حساسة في حال رضوخ الرئيس التركي لضغوط المعارضة حول ضرورة تضمين الشهادات المدينة لمسؤولي حزب الحركة القومية في ملف دعوى اغتيال أتيش. يرى المحللون الأتراك أنه "من المبكر الحديث عن نهاية التحالف بين إردوغان وباهتشيلي"، مؤكدين في الوقت ذاته بوجود تصدّعات في هيكله. (المشهد)