تعيش الأسواق التونسية أزمة في منتَج الحليب، على غرار العديد من الموادّ الاستهلاكية الأساسية.وفقدت رفوف نقاط البيع، الحليب، في توقيت حسّاس مع انطلاق العودة المدرسية، وانتهاء العطل، واقتراب ذكرى المولد النبويّ الشريف، الأمر الذي شغل بال الأسر حول مصير وجبات الأطفال بالخصوص.ويمثّل الحليب عنصرًا غذائيًا أساسيًا، نظرا إلى النمط المتّبع لدى التونسيّين. وتتضارب المعلومات حول أسباب هذا النقص، بين من يؤكد وجود مخزون استراتيجيّ وسلامة مسالك التوزيع، وبين من يتهم بعض الأطراف بافتعال الأزمة. ويعتبر الاتحاد التونسي للفلاحة أنّ الوضع الحالي يُنذر بخطر فقدان مادة الحليب نهائيًا، بعد تراجع الإنتاج اليوميّ بنسبة الربع. وتضاف الأزمة إلى سابقاتها المتمثلة في فقدان منتج الخبز وموادّ أخرى مثل القهوة والأرز.نقص في الحليب التونسيفي السياق، كشف رئيس الغرفة الوطنية لأصحاب المساحات التجارية الكبرى الهادي بكور، أنّ نقص إنتاج الحليب الطبيعيّ سيتواصل حتى يناير المقبل، مبيّنا أنّ الكميات المنتَجة لا تغطي الطلب والاستهلاك الحقيقيّ، وهو ما سبّب أزمة. وأثار هذا المستجد حفيظة المستهلك الذي خُيّر اقتناء ما يفوق حاجته من الحليب تحرّزا من فقدانه، الأمر الذي سرّع من اختفائه من رفوف المحالّ والمساحات التجارية. وتوجه مسؤولو نقاط البيع إلى تحديد حصة لا تتجاوز لترين من الحليب نصف الدسم لكل مواطن، إلا أنه لم يعد متوافرا بالكامل في أغلب المحلات. وكانت قد شددت الغرفة الوطنية لصناعة الحليب، على أنّ أزمة فقدان المادة ما زالت متواصلة، وفي محاولة لمعرفة أسبابها الحقيقة من خلال معطيات ممثلي الغرفة، رفض نائب الرئيس علي الكلابي، رفضا قاطعا تقديم أيّ تصريحات لمنصة "المشهد".وبرّر الكلابي موقف المؤسسة بأنهم سئموا محاولات لفت الانتباه، على مدار 3 أعوام، نحو حقيقة الأزمة المرتبطة بإنتاج وبيع الحليب في تونس. وليست هذه المرة الأولى التي يغيب فيها منتَج الحليب عن الأسواق في تونس، حيث كان قد نبّه مصنّعو الحليب، إلى نقص في الإنتاج منذ منتصف السنة الماضية. وكانت الغرفة الوطنية لمصنّعي الحليب ومشتقاته، قد عزت الأزمة إلى تراجع الإنتاج، بسبب ارتفاع الكلفة نتيجة غلاء أسعار الأعلاف، وبسبب تدني سعر البيع. ويشكو الفلاحون ومربو الأبقار من ارتفاع كبير في أسعار الأعلاف، ما أدّى إلى ارتفاع كلفة الإنتاج، ويطالبون الحكومة بالترفيع في نسبة الدعم للحليب على مستوى الإنتاج، لمجابهة التكاليف الباهظة وتحقيق التوازن المالي. أزمة حليب تونس مفتعلة؟ أكد رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك لطفي الرياحي في تصريح خاص لـ"المشهد"، أنّ أزمة الحليب مفتعلة، حيث قلص المزوّدون الكميات الموجهة إلى تجار التفصيل. وأضاف لطفي الرياحي، أنّ إنتاج الحليب المقدّر بمليون ونصف المليون لتر يوميًا، يغطي الاستهلاك، مشيرا إلى وجود مخزون احتياطيّ يبلغ 23 مليون لتر، يكفي لتغطية الطلب لمدة 20 يوما في حال انقطع الإنتاج. وكانالرئيس التونسيّ قيس سعيّد قد أشار في تصريحات سابقة تتعلق بأزمات فقدان الحليب المتكررة، إلى أنّ إنتاج هذه المادة تكفي كل التونسيّين، لكنّ "المحتكرين يبيعون الحليب منزوع الدسم والكامل فقط". وكان سعيّد قد شدّد على ضرورة توفير هذه المادة لكل التونسيين، والقضاء على الذين يعبثون بقوتهم، قائلا إنه لا بدّ من الترفيع في الإنتاج لمقاومة الاحتكار، حتى ولو كان هامش الربح أقل. ويدعم الرياحي هذا الموقف، متسائلًا عن حقيقة غياب المنتَج بالرغم من وجود مخزون استراتيجيّ وإنتاج يومي، بالإضافة إلى توفير مشتقات الألبان التي تباع بشكل عادي من دون فقدان. خارج توقيت الطفرة الإنتاجيّة يقرّ عضو الهيئة المديرة باتحاد الفلاحة يحي مسعود، أنّ "أسباب تراجع إنتاج الحليب في تونس، تعود بالنظر إلى كون النقص البيولوجيّ في الإنتاج للأبقار، والممتدة حتى شهري يناير وفبراير، على عكس فترة الطفرة البيولوجية في الإنتاج خلال أشهر الربيع والصيف". ويوعز مسعود في تصريح لـ"المشهد"، ضعف الإنتاج والتصنيع أيضا، إلى فترات الجفاف التي ضربت البلاد، والتي لم تتمّ فيها الطفرة الإنتاجية بالكيفية المطلوبة. ويتابع "عانينا في الأربع السنوات الماضية، نقصا كبيرا على مستوى الإنتاج، ولكن كان ذلك في حدود الكلفة، لكننا نعاني اليوم نقصا كبيرا في كلفة الإنتاج بناقص 500 مليم". وشدّد مسعود على أنّ هامش الخسارة كبير، ويؤثر بشكل كبير على مسار الاستثمار في مشاريع إنتاج الحليب. ويرى المتحدث أنّ "خيارات الدولة تتمثل في التضحية بالفلاح في منظومة الإنتاج". كما يرجع أساس الإشكال إلى الحلقة الأولى من سلسلة إنتاج الحليب، وهو الفلاح الذي يعتبر أنه مهمّش ولا يتلقى الدعم الكافي من الدولة والاستثمار المطلوب. وأشار إلى أنّ تهميش الفلاح وعدم مساعدته في هذه الظروف، جعل من مهنته قطاعا منفّرا للاستثمار، خصوصا أنّ البنوك التونسية تعرّف مشروع تربية الأبقار بالاستثمار الفاشل، ولا تشجع على التمويل والاستثمار فيه. ويشدّد مدير الإنتاج على أنّ تحقيق السيادة الغذائية، يبدأ بالمحافظة على المنظومات الوطنية من خلال دعمها ودعم الفلاح. منتج جديد على الخطّ في المقابل، أكد مصدر موثوق في وزارة التجارة لمنصة "المشهد"، أنّ هناك نيّة للاتجاه نحو الاتفاق مع مصنّعي الحليب، على إنتاج كميات من الحليب غير الطازج انطلاقا من الحليب المجفف. وفي حالة الاتفاق، فسيكفي المنتج الجديد متطلبات السوق وتنفرج الأزمة. وكانت قد اتخذت الحكومة في مطلع العام خطوة نحو إعفاء واردات الحليب المجفّف من المعاليم الجمركية. ولاقى هذا الإجراء رفضا من النقابة التونسية للفلاحين، واعتبرت أنّ الفصل 21 من قانون الماليّة، يصبّ في تقويض حلقة الإنتاج الوطني، مقابل تقوية حلقة الإنتاج عند الفلاح الأجنبي، باعتبار أنّ أسعار الحليب المجفّف في الخارج ليست منخفضة، وأنّ الدولة ستدعم هذا المنتوج المورّد عوضا عن دعم الفلاح التونسي. وجاء في قانون الماليّة لسنة 2023 في فصله الـ21: "تلغى أحكام الأمر عدد 1391 لسنة 1991 المؤرّخ في 23 سبتمبر 1991، المتعلّق بتوظيف معلوم مسحوق الحليب المستورد، كمّا تمّ تنقيحه وإتمامه بالنصوص اللاحقة".الحليب المجفف ويرى الممثل لاتحاد الفلاحة، أنه يمكن للدولة أن تتوجه إلى إمكانية توريد الحليب المجفف أو تصنيعه، "إلا أنّ خيار التوريد بالعملة الصعبة لا يفيد الفلاح، ولا يفيد المنظومة الإنتاجية التونسية". ويضيف المتحدث، أنّ "سياسة الدولة في إطفاء الحرائق، هي سياسة خاطئة وتم إثبات ذلك منذ 2016، وبحسب التجربة في السبعينيات، لن يتم استهلاك الحليب المجفف". كما يرى مسعود في تصريح خاص لـ"المشهد"، بأنّ الفلاح هو البنية التحتية المنهارة، وإذا كانت الدولة تفكر في توريد الحليب المجفّف، فإنّ منظومة الإنتاج هي الأوْلى بالعملة الصعبة، وأوْلى بالدعم. مشدّدا على أنّ خيار التصنيع أو التوريد، "يصب في مصالح رؤوس الأموال الذين يسعون لفتح المصانع أو توريد السلع"، وهو خيار غير مطروح، وفق قوله.وعلى الرغم من الانحدار الاقتصادي التي تعيشه تونس منذ أعوام، وارتفاع أزمة التضخم في الأسعار، وتدني القدرة الشرائية، يقترح يحيى مسعود حلولًا لاستعادة المنظومة الإنتاجية من خلال: العودة لطفرة سنة 2016، وتلقّي الدعم من الدولة والبنوك.الربط مع خطوط خارجية كبيرة لتصدير الحليب مثل إفريقيا وروسيا وغيرها.اعتماد العلاقات الوطنية في التصدير وليست السياسية. القطاع الفلّاحي والتجاريّ التونسي قادر على استعادة زمام الأمور. (المشهد)