عمل الرئيس التركي خلال العقد الثاني من حكم "العدالة والتنمية"، على تمكين نفوذه من خلال تعديلات دستورية منحته صلاحيات تشريعية وتنفيذية، بل وحتى قضائية واسعة، مبررا هذه "الإصلاحات" بحاجة البلاد إلى نظام أكثر تماسكا، يساعد على الازدهار ويُبعد عنها تعقيدات الحكومات الائتلافية الضعيفة، المشكّلة بحكم الأمر الواقع، لصناديق الاقتراع.بالمقابل، ترى المعارضة بأنّ الحكومة تسعى عبر هذه التعديلات الدستورية، إلى تكريس سلطة "الرجل الواحد"، وتقوّض الديمقراطية التي قامت عليها البلاد منذ تأسيسها عام 1923، مؤكدة عزمها للعودة إلى نظام "الحكم البرلماني المدعّم" في حال فوزها وحصولها على الأغلبية التي تخوّلها تعديل دستور البلاد، ما يشير إلى اختلاف نظرة كلا الطرفين للسلطتين التشريعية والتنفيذية.رئيس جمهورية بصلاحيات تنفيذية كاملةتُقسّم فترة حكم إردوغان إلى مرحلتين، ما قبل انقلاب 2016، وما بعده، حين رأى الرئيس التركي في الانقلاب الفاشل، عاملًا مسرّعا للتحوّل إلى نظام الحكم الرئاسي، لأول مرة في تاريخ الجمهورية البرلمانية، مع صلاحيات دستورية واسعة، مكّنته من القبض على مفاصل القرار في البلاد، عبر إضافة وإلغاء العديد من التشريعات، بما يتناسب ومصالحه، للبقاء لأطول فترة ممكنة في السلطة. أدّت الانتخابات البرلمانية في 14 مايو الفائت، إلى احتفاظ "تحالف الشعب" الحاكم بالأغلبية البرلمانية، على الرغم من خسارته لعدد من المقاعد النيابية مقارنة مع انتخابات عام 2018، عندما حصد 344 مقعدا، مقابل 323 مقعدا في الدورة القادمة، من أصل 600.التوزيع النيابي الحالي لن يساعد الرئيس التركي على تعديل الدستور أو إقرار القوانين، التي تتطلب أغلبية الثلثين (400 صوت)، أو تصويت ثلاثة أخماس عدد الأعضاء (360 نائبا) من أجل طرح التعديلات للاستفتاء الشعبي، لكنّ الصلاحيّات الواسعة التي حصل عليها بموجب التعديلات السابقة، قد تمكّنه من تجاوز الكثير من العقبات الناتجة عن تراجع قدرته في تمرير المراسيم والتشريعات المطلوبة، من خلال المؤسسة التشريعية.وفي هذا السياق يقول الكاتب والصحفي التركي فهيم تاشتيكين في حديث إلى منصة "المشهد"، إنه "بعد التعديل الدستوري في عام 2017، تم نقل صلاحيات البرلمان بشكل كبير إلى الرئيس، الذي يحق له بموجبها تعيين رئيس الوزراء وإقالته، واستبدال الوزراء، ولم يعد مجلس الوزراء أو الوزراء المعيّنون بحاجة إلى موافقة البرلمان".ويضيف تاشتيكين "لم يعد لدى البرلمان سلطة كبيرة سوى الموافقة على مشروع قانون الميزانية، وإقرار القوانين، فالرئيس يحكم البلاد بمرسوم، وفي هذه الحالة أهم شيء بالنسبة للمعارضة أن تتولى الرئاسة".الطعن في أيّ قرار لا يناسب إردوغانيستمر إردوغان في استخدامه للسلطة التنفيذية في البلاد، بما يلبّي مصالحه والتحكّم في مؤسسات الدولة كافة، في المرحلة الثانية التي تحدثنا عنها آنفا بعد الانقلاب الفاشل، بذل إردوغان جهده لتحقيق الفوز في انتخابات 2018، ويحاول تكرار ذلك في الانتخابات الرئاسية اليوم.ناقش الإعلام الغربي وحتى التركي طويلًا، سيناريو رفض الرئيس التركي لنتيجة الانتخابات في حال فوز مرشّح المعارضة كمال كيليجدار أوغلو بالرئاسة من الجولة الأولى، وفق ترجيحات باستغلال إردوغان لسلطته على الجهات الدستورية في البلاد، للحيلولة دون تسليم السلطة لمنافسه الذي يتّهمه على الدوام بالارتباط بالإرهاب، المقصود به هنا "حزب العمال الكردستاني".هذه المناقشات استندت إلى سيناريو مشابه شهدته الانتخابات المحلية في عام 2019، عندما أصدر الرئيس التركي قرارا من الهيئة العليا للانتخابات، لإعادة انتخابات إسطنبول التي خسرها مرشّحه بن علي يلدرم، رئيس الوزراء التركي الأسبق، ورئيس البرلمان السابق، لصالح مرشّح حزب الشعب الجمهوي أكرم إمام أوغلو، إلا أنّ الناخب التركي أبدى ردّ فعل رافض لهذه الخطوة في جولة الإعادة، عبر التصويت بأعداد أكبر لصالح المعارضة التي حسمت أكبر البلديات التركية لصالحها.وإدراكا منه بشعبية إمام أوغلو، نجح إردوغان في إزاحته من المنافسة بتهمة إهانة مسؤولين حكوميين، وإصدار قرار أوليّ يمنع ممارسة إمام أوغلو للسياسة (القرار قيد الاستئناف)، وهو الذي قال يوما: "من يفوز بإسطنبول يفوز بتركيا كلها"، استنادا إلى مسيرته السياسية التي بدأها كرئيس لبلدية إسطنبول في منتصف تسعينيات القرن الماضي.وبرأي تاشتيكين، فإنّ "لدى إردوغان طريقة لممارسة السياسة، في السنوات الأولى تعامل بشكل جيد مع الجهات المختلفة، من أجل تعزيز قوّته، لكن بعد عام 2015، لم يعد بحاجة إلى جماعات سياسية قد تنقلب عليه، وحينها تحالف مع القوميين، واستخدم هذا التحالف في سياسات معينة، خصوصا في المجال الأمني". ولا يتوقّع تاشتيكين أن تتغيّر سياسة إردوغان من ناحية استخدام السلطات في البلاد في المرحلة القادمة، خصوصا في ظلّ رغبته في التحوّل إلى زعيم وطني بدلا من كونه زعيمًا حزبيا، وهو ما يزيد من احتمالات تخلّيه عن سياسة الاستقطاب التي يمارسها حاليا.ويستشهد تاشتيكين بالمثل التركي المأثور: "الأطباع لا تتغيّر"، لذا لن نرى تركيا ديمقراطية مرة أخرى في وقت قصير، وفقا للكاتب المتخصّص بالسياسات التركية والشرق أوسطية.يرسم إردوغان لدى أنصاره صورة مشابهة للزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، محاولًا توليف الذاكرة الشعبية التركية للتربّع على عرش مؤسس الجمهورية الثانية بعد قرن، لذا فإنه يرى في انتخابات عام 2023 الفرصة السانحة والأخيرة في الوقت ذاته، لتحقيق طموحات تخليد اسمه كزعيم لتركيا الحديثة.العودة إلى النظام البرلماني تؤيد المعارضة العودة إلى النظام البرلماني، وإعادة منصب رئيس الوزراء، المنتَخب لمدة 4 سنوات، تُوكل إليه صلاحيات السلطة التنفيذية في البلاد، فيما يتمّ انتخاب الرئيس لولاية واحدة مدتها سبع سنوات.لكنّ رغبة المعارضة هذه تصطدم بعائقين من الصعب جدا تجاوزهما، يتمثّل الأول بفشلها في الحصول على الأغلبية التي تخوّلها تعديل الدستوري، ونظام الحكم من الرئاسي إلى البرلماني في الدورة القادمة، والعائق الثاني الذي يمكن اعتباره الأكبر، يتمثّل في تجذّر النظام الذي أسسه الرئيس التركي على مدى عقدين، من خلال هندسة وهيكلة مؤسسات الدولة وفقا لرؤيته، وبشكل يتناسب مع منهجيّته في الحكم.كما أنه في حال وصول كليجدار أوغلو إلى السلطة، فإنه سيواجه سيناريو تعطيل البرلمان، حيث الأغلبية النيابية لتحالف الشعب، من صلاحيّاته التنفيذية، خصوصا أنه بحسب النظام الرئاسي، فإنّ الرئيس لا يمكنه حلّ البرلمان إلا بموافقة ثلثي النوّاب.ويرى تاشتيكين، أنه "في حال فوز المعارضة بالرئاسة، لن يتمّ إعاقة النظام بالكامل، لكن يجب عليها التفاوض مع تحالف الشعب الذي يملك الأغلبية، لتتمكن من تغيير القانون.إنّ خسارة الأغلبية البرلمانية ليست بالأمر الكبير، بحسب المعارضة، لأنّ الرئيس يتمتّع بسلطة تعيين وعزل وإدارة البلاد بمرسوم. إذا تم انتخاب كليجدار أوغلو، يمكن معالجة التشوّهات التي حدثت في النظام خلال فترة أردوغان جزئيا عن طريق المراسيم، لكن لن يكون من السهل سنّ القوانين أو تغيير الدستور، لأنّ أغلبية الثلثين في البرلمان مطلوبة".على الرغم من تراجع احتمال وصول كلجيدار أوغلو إلى السلطة، إلا أنّ إمكانية إعادة النظام البرلماني للبلاد، وتنازله عن السلطات التنفيذية معقّدة جدا، خصوصا وأنه سيواجه معارضة شرسة من أنصار إردوغان القوميين والإسلاميين، إضافة إلى المنافسة على السلطة من قِبل أنصاره أنفسهم، الذين قد يرفضون التخلّي عن السلطات في البلاد، ما يفشّل طموحاته في إعادة الديمقراطية التي يتحدث عنها.إنّ فوز إردوغان المرجح في الانتخابات، يعني بعثرة أوراق المعارضة التركية بعد أن ظلت سنوات وهي تلمّ شملها، ومن خلال إحكام السيطرة على سلطات البلاد وأجهزة الدولة وخصوصا الجيش والمخابرات والقضاء، قد نشهد في المرحلة القادمة زعزعة صفوف المعارضة واعتقال قادتها والتحريض ضدهم بتُهم مختلفة.(المشهد)