في خطوة تضاف إلى خطوات سابقة على طريق كسر العزلة الدبلوماسية التي تعاني منها البلاد، توجه الرئيس السوري بشار الأسد إلى الصين، بدعوة من نظيره الصيني شي جين بينغ، في وقت أظهرت فيه الحرب السورية عمق العلاقات بين الجانبين، وعلى الرغم من أن الصين لم تتدخل في سوريا بشكل مباشر طوال السنوات الماضية، إلا أنها لم تفوت فرصة لاستخدام حق النقض "الفيتو" ضد أي قرار لا يصب في مصلحتها. لكن بلا شك تتأثر هذه العلاقة بالمتغيرات الدولية، والعوامل الجيوسياسية والاقتصادية والسياسية التي تلعب دورا مهما في تشكيلها، والتي تطلبت مرونة من كلا الجانبين للتغلب على كل الثغرات التي يمكن أن تواجههم.بعد الإعلان عن الزيارة مباشرةً، فردت الصحف الغربية صفحات للتحدث عن هذه الزيارة، وكذلك خصصت القنوات الفضائية مساحات واسعة لتحليل هذا اللقاء من حيث التوقيت والأهمية. على سبيل المثال عنونت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالا بـ"الزعيم السوري يزور الصين بحثا عن أصدقاء وأموال"، فيما قالت BBC "زيارة الأسد إلى الصين: محطة على "طرق الحرير الجديدة؟".زيارة استثنائية تأتي الزيارة للصين في وقت يعمل فيه الأسد على إنهاء عزلته الدولية المستمرة منذ 12 عاما، كونها أول زيارة للأسد إلى الصين منذ عام 2004، وكذلك تعتبر الزيارة الأولى لرئيس دولة سوري منذ أن أقامت سوريا علاقات مع الصين عام 1956. تعد الصين من بين الدول القليلة التي زارها الرئيس السوري منذ بداية الحرب عام 2011. بدورها، اعتبرت الصين أن الزيارة التي بدأها الرئيس السوري، تشكّل فرصة لدفع العلاقات بين دمشق وبكين إلى "مستوى جديد". تقول د. تمارا برو المتخصصة في الشئون الصينية في تصريح خاص لمنصة "المشهد" إن زيارة الرئيس السوري تأتي "بناء على دعوة وجهها له نظيره الصيني لحضور افتتاح ألعاب الأولمبياد الآسيوية كما وجهها للعديد من الرؤساء، لكن لسوريا وضع خاص بسبب الحرب المستمرة منذ عام 2011، ووجود القوات الأجنبية على أراضيها، والعقوبات الغربية المفروضة عليها".وتضيف برو "تهدف بكين من دعوة الرئيس الأسد إلى تحدي الإدارة الأميركية التي تحاول عزل الأسد، وتأتي الزيارة في وقت توسع فيه بكين من نفوذها في المنطقة، خصوصا بعد أن لعبت دور الوسيط في المصالحة السعودية الإيرانية. تريد بكين أن تستفز واشنطن في الشرق الأوسط الذي يعتبر منطقة نفوذ أميركي منذ زمن طويل، كردٍ على الاستفزازات الأميركية في بحر الصين الجنوبي". من جهته، يشرح الصحفي والمحلل الاقتصادي أيمن القحف في حديثه إلى منصة "المشهد" أن "الزيارة ذات أهمية كبيرة، والعلاقات الصينية السورية عمرها طويل، ووعيها متنامي باستمرار، وتأتي في وقت تُحاصر فيه سوريا ويُفرض عليها عقوبات وسط محاولات لتأجيج الصراعات الداخلية من جديد".وبرأي القحف "العلاقات مع الصين ليست مجرد فيتو، وبالنظر إلى الدور العالمي الذي تلعبه الصين، سيكون لسوريا دورا ضمن هذا المشهد المستقبلي المتواجدة فيه الصين بشكل أساسي".دور صيني جديدطوال العقود الماضية، عرفت الصين بإيلاء الأولوية للاقتصاد، بمعنى أن بكين لا تتعامل مع الدول إلا من الناحية الاقتصادية، على عكس "الدور الأميركي في المنطقة، الذي كان ولا يزال على أساس التدخلات العسكرية، وفرض العقوبات، وإسقاط رؤساء كما في العراق وغيرها"، وفقا لمحللين.وعلى الرغم من دعمها للرئيس السوري في الحرب منذ عام 2011، إلا أن الصين لم تتدخل عسكريا في البلاد مثل الدول الأخرى، ولم تمده بالسلاح، واقتصر دورها على الصعيد الدبلوماسي والسياسي، خصوصا فيما يتعلق بإفشال القرارات الدولية ضده عبر حق الفيتو. لكن خلال الأشهر الماضية، بدت الصين أنها تحاول لعب أدورا لم تلعبها في السابق، ألا وهي الوساطات لحل النزاعات الكبرى، تبلور ذلك عبر توسطها في الاتفاق السعودي الإيراني، الذي يعتبر من أكبر وأهم صراعات المنطقة، كذلك عرضت الصين التوسط بين الإسرائيليين والفلسطينيين خلال زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى الصين في يونيو الماضي. على مستوى سوريا، من المنطقي أن يكون لدى الصين مساعي لحجز مقعد في البلاد، بما يحقق مصالحها التي تخدم مبادرة الحزام والطريق، فيما ترى أنها الوحيدة من بين الدول التي كان لها دورا في الحرب السورية، والتي بذات الوقت لم يكن لها نفوذا ولا قرارا في الأزمة مثل الأخريات ولا سيما روسيا وإيران وتركيا. ومن هذا المنطلق، وبعد هدوء الحرب العسكرية في سوريا، قد يكون لدى الصين طموحات في البلاد، تريد تحقيقها عبر علاقاتها الوثيقة مع دمشق.الجانب الاقتصادي أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال لقائه نظيره السوري أنّ الصين وسوريا أقامتا "شراكة استراتيجية". لا يمكن التنبؤ بشكل وحجم وتأثير هذه الشراكة التي أُعلن عنها، خصوصا وأن العديد من الدول في وقت سابق، وإن كانت تختلف من حيث القوة والنفوذ، أعلنت عن اتفاقيات وشراكات استراتيجية مع دمشق، لكن لم يتأثر الاقتصاد السوري فيها، ودائما ما تكون العقوبات الغربية المفروضة على البلاد حاجزا بوجه أي تحسنٍ قد يطرأ.طوال سنوات الحرب، كان الدور الاقتصادي الصيني خجولا، في عام 2017، تعهدت الصين بتقديم ملياري دولار لمساعدة سوريا، لكن الكثير من هذه المساعدات لم يتم تقديمها بعد. توقع البعض أن الرئيس السوري قد يحاول إثارة ذلك، خصوصا في ظل الوضع الاقتصادي الرديء جدا في البلاد، والذي أعقبه احتجاجات في محافظة السويداء، لم تهدأ حتى اليوم. وتشرح برو أن "الاتفاقيات التي تم توقيعا لن تنفذ غدا أو بعد غد، بل تحتاج إلى وقت وزيارات متتابعة لكلا الجانبين، لكن قد تعمل الصين اليوم على تقديم المساعدات الإنسانية إلى سوريا مثل الألواح الشمسية للمساعدة في أزمة الكهرباء الحاصلة، وبدء الاستثمار في المناطق الآمنة والخاضعة لسيطرة الحكومة مع تأمين الحماية للشركات الصينية. على ما يبدو أن الصين لديها رغبة حقيقة في إعادة الإعمار والاستثمار في سوريا". وبرأي المتخصصة في الشؤون الصينية فإن "الصين لعبت أدورا مهمة في الشرق الأوسط خلال الآونة الأخيرة، هدفها الأساسي تأمين الاستقرار في المنطقة من أجل مبادرتها "الحزام والطريق"، متحديةً الهيمنة الأميركية لإنشاء عالم متعدد الأقطاب، تكون الصين قطبا فيه". بالنسبة للصين، يمكن أن تستفيد من موقع سوريا الاستراتيجي وفقا لبرو "ومن موانئها، كميناء اللاذقية، بحيث تأمن الصين وجودا لها في المستقبل. من جهة ثانية، تعمل الصين على مواجهة الإرهاب في سوريا لضمان عدم عودة الانفصالين الإيغور الموجودين على الأراضي السورية إلى الصين، وإرسال رسالة إلى واشنطن مفادها أن عهد الغرب يتدهور وعهد الشرق يظهر ويعلو". تعد الصين أكبر شريك تجاري لسوريا، ويتطلع كلا البلدين إلى زيادة تجارتهما الثنائية، والتي تبلغ قيمتها 426 مليون دولار أميركي في عام 2022، حيث يظهر الجانبان سعيهما إلى توسيع هذه الشراكة، تبلور ذلك من خلال الاتفاقيات التي تم توقيعها.يبين القحف أن "الصين تأخرت بتقديم ما يليق بمكانتها، وبالعلاقات التي تمتلكها مع سوريا، لكن اليوم تعمل على خرق نظام العقوبات، إذ تحاول مع دول البريكس كسر هيمنة الدولار على الأسواق العالمية. لكن في الوقت ذاته تخشى الشركات الصينية من التعرض لعقوبات غربية بسبب تعاونها مع سوريا، لكن بلا شك تمتلك بكين طرقا وأساليب تستطيع من خلالها التغلب على هذه العقوبات". ويتوقع القحف بأن يكون هناك حل لبعض المشكلات الكبرى في سوريا، ولا سيما تلك المتعلقة بالطاقة. وفي الفترة 2008-2009، استثمرت الصين نحو 3 مليارات دولار في استخراج النفط ومشاريع الطاقة الأخرى في سوريا، ولكن تم الانتهاء من المشاريع في عام 2014 وسط العقوبات الغربية. (المشهد)