منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي، بقي إقليم ناغورنو كاراباخ محطّ نزاعٍ بين الجارتَين أرمينيا وأذربيجان، في وقت كانت فيه نتيجة الحرب لصالح يريفان حتى عام 2020، لكن بعد هذا التاريخ بدأت الموازين تنقلب لصالح باكو.بمساعدة غير مسبوقة من إسرائيل وتركيا، سيطرت أذربيجان على أجزاء من كاراباخ عام 2020، لتستكمل هذا "النصر" كما تسميه في حربها الشهر الماضي على الإقليم، والتي استمرت يوما واحدا فقط، استسلم فيه الجانب الأرمينيّ مباشرة، فيما غادر معظم الأرمن الإقليم متوجهين إلى بلدهم الأم أرمينيا. وفي ظل الدعم التركي الدائم لأذربيجان في حربها ضد أرميينا، يبرز السؤال حول مصلحة أنقرة في دعم باكو؟مصلحة تركيا في كاراباختُعرف العلاقات التركية – الأذربيجانية بمتانتها على مرّ السنين، وتعززت أكثر مع وصول إردوغان إلى السلطة، في وقت ينتمي الأذريون إلى القومية التركية، وتُعتبر أذربيجان دولة ذات غالبية عرقية تركية، كما أنها عضو مهم في المجلس التركيّ (الدول الناطقة باللغة التركية). لم يفوّت إردوغان فرصة ليدعم فيها أذربيجان، خصوصا في حربها ضد أرمينيا على إقليم ناغورنو كاراباخ المستمرة منذ عقود. في حرب كاراباخ 2020 لعبت المسيرات التركية "بيرقدار" دورا مهمًا في الصراع، كما أنّ أنقرة لم تتوانَ عن تقديم الدعم السياسيّ لها على المسرح العالمي، وتؤكد حقّها في استعادة ناغورنو كاراباخ. في الحرب الأخيرة، والتي سيطرت أذربيجان من خلالها على كاراباخ، سرعان ما قام الرئيس التركي بزيارة أذربيجان وتحديدا إقليم ناختشفان، وهو منطقة حكم ذاتيّ في أذربيجان، وأكد عزم البلدين بفتح ممر زنغيزور الذي يمر عبر جنوب أرمينيا. تصر تركيا باستمرار على فتح الممر، لما فيه من مصالح كبيرة لها، والذي بدوره يفتح المجال أمام تركيا للاتصال بالدول ذات القوميات التركية في آسيا الوسطى، كذلك يتيح الممر طريقا بريًا يمتدّ من أذربيجان إلى تركيا مباشرة عبر إقليم ناختشيفان، ما يعود بالفائدة الاقتصاديّة والتجاريّة الكبيرة لكل من باكو وأنقرة. يؤيد ذلك خبير العلاقات الدولية والمتخصص في الصراعات الدولية إسحاق إنديكيان في حديثه إلى منصة "المشهد"، قائلا: "تركيا دعمت الحرب الأذرية على أرمينيا بالسلاح والعتاد والخبرة العسكريّة. هي كانت حربا تركيّة على البلاد بواسطة أذربيجان، تريد تركيا من خلالها تحقيق حلم إردوغان بإنشاء وإعادة إحياء الإمبراطوريّة الطورانيّة التي تمتدّ من البلقان حتّى حدود الصين". ويضيف إنديكيان "ستسعى كلُّ من أذربيجان وتركيا للسيطرة على المنطقة لأنّه نقطة استراتيجيّة لتحقيق الوحدة الجغرافيّة للإمبراطوريّة الطورانيّة إذ تقف المنطقة الجنوبيّة لأرمينيا، بما فيها زانغيزور، الذي يمثّل حجر عثرة يحول دون تحقيق ذلك. وبالاستحواذ على زانغيزور تُزال العوائق أمام الشعب من أصل تركي، وتتشكّل الوحدة الجغرافيّة بين 7 دول: تركيا، وأذربيجان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وطاجيكستان، وكازاخستان، وقرغيزيستان، ممّا تخلق الفرص الاقتصاديّة المتعدّدة لهذه البلدان، بما فيها مسألة النفط والغاز وإيصالهما لأوروبا كبديل عن النفط والغاز الروسيّين. هذا بالإضافة إلى استثمار هذه الوحدة، إن تحقّقت، بالسياسة الإقليميّة خصوصا إزعاج إيران والدول العربيّة في الشرق الأوسط". الموقف الإيراني من فتح زنغيزور على الرغم من أنّ أذربيجان دولة شيعية كما إيران، إلّا أنّ الأخيرة تدعم موقف أرمينيا (المسيحية) حول ممر زنغيزرو، ولا شك أنّ لإيران أسبابها في ذلك، والتي تنبع من مكاسب اقتصادية وسياسية على حدّ سواء. نظرا لأنّ ممر زنغيزور مغلق، تحتاج أذربيجان المرور بإيران من أجل الوصول إلى إقليم ناختشيفان، كذلك تحتاج تركيا المرور بإيران للوصول إلى أذربيجان، وبالتالي فإنّ إيران ستكون خاسرة اقتصاديا في حال فتح الممر، لأنه سيتم الاستغناء عن المرور فيها.لكنّ الخطر الأكبر الذي تستشعره طهران هو انفصال المحافظات التي تتشكل غالبيّتها من العرق الأذري عن إيران، في وقت يمثّل الأذربيجانيون نحو 16% من سكان إيران، خصوصا أنّ هذه الأقلية تعطي أهمية للقومية التركية أكثر منها للشيعيّة. في هذا الإطار، يشرح المحلل السياسي الإيراني وجدان عبد الرحمن في تصريح إلى منصة "المشهد"، أنّ "التخوف الإيراني يعود إلى أسباب سياسية واقتصادية، إيران تخشى من الوجود الإسرائيلي في ناختشيفان، لكنّ الربط بين أذربيجان وناختشيفان عبرها تخفف هذه المخاوف. من الناحية الاقتصادية أذربيجان تحتاج الدخول الأراضي الإيرانية للوصول على ناختشيفان، كذلك تركيا تحتاج المرور في الأراضي الإيرانية للوصل إلى أذربيجان".ويضيف عبد الرحمن "تستطيع إيران من خلال حاجة تركيا وأذربيجان للأراضي الإيرانية، أن تضغط على إسرائيل في ملفات عدة، أبرزها العلاقات الإسرائيلية بأذربيجان التي أصبحت متينة على المستويات كافة، واليوم هناك أنباء أنّ إسرائيل لا تزود أذربيجان فقط بالمعدات العسكرية فحسب، بل وصل الأمر إلى تزويدها بالأقمار الاصطناعية، وهذا يُعتبر عددا كبيرا لإيران، لأنّ إسرائيل على حدودها، وأيضا لأنّ خصمها أذربيجان تتطور أمنيا". وبرأي عبد الرحمن، "تستطيع إيران من خلال هذا الممر الوصول إلى أوروبا، وتستفيد منه اقتصاديًا، لذلك فإنّ فتح الممر يقطع هذا التواصل مع أوروبا. كذلك تخشى إيران من دعم تركيا للأتراك الأذربيجانيّين في إيران، وبذلك إيران من خلال مرورهم بأراضيها تضغط عليهم في هذا الملف، لكن إذا فُتح الممر ستفقد إيران هذه الورقة السياسية".صمت روسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، حاولت روسيا بشدة الحفاظ على نفوذها في منطقة القوقاز، والتي تُعتبر حديقة خلفية لها. خلال حرب 1994 دعمت روسيا أرمينيا في حربها ضد أذربيجان، وكان دعمها سببًا رئيسا في سيطرة الأرمن على الإقليم، لكن اليوم الموقف الروسيّ يأخذ شكلا مختلفا، وذلك بسبب اختلاف ديناميات الصراع في المنطقة، وخصوصا الحرب الروسية – الأوكرانية التي أصبحت محطّ الاهتمام العالمي. يضاف إلى ذلك وصول رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشنيان إلى السلطة، عبر ما يسمى "الثورة المخمليّة"، ومحاولته فكّ ارتباط بلاده الكامل بروسيا، إذ قال باشنيان في مقابلة مع صحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية، "لا ينبغي لأرمينيا أن تعتمد فقط على روسيا في بناء الأمن الاستراتيجي، فقد تذوّقت البلاد بالفعل الثمار المرّة بفعل هذا الخطأ". وما زاد الأمور تعقيدا هو أنّ الحكومة الأرمينيّة صادقت على نظام روما الأساسيّ للمحكمة الجنائية الدوليّة، بما في ذلك مذكرة الاعتقال بحق الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، ما يعني أنّ أرمينيا باتت ملزمة باعتقال بوتين في حال دخل الأراضي الأرمينية.وبرأي إنديكيان، "روسيّا غير قادرة على ضبط الوضع بالشكل الذي تريده، بسبب انشغالها بحربها على أوكرانيا"، لكن كل ما يهمّ موسكو في الوقت الراهن هو وجودها العسكريّ في المنطقة تحت مسمّيات عدّة، منها على سبيل التعداد لا الحصر، "قوّات حفظ السلام" التي لا تقوم بأيّ دور هي تعهّدت به.ووفقا للمتحدث ذاته، كذلك الأمر بالنسبة لممرّ زانغيزور، فروسيا لا تستطيع كبح جماح الأذريّين والأتراك بالنسبة للممرّ، وكلّ ما تريده روسيا هو نشر قوّاتها على طول الممرّ (كما فعلت في لاتشين إبّان الاتفاق الثلاثيّ في العام 2020 بين أرمينيا وأذربيجان وروسيا) لتضمن حضورها فيه في حال استدعت الحاجة لتدخّلها حفاظا على مصالحها القوميّة على حساب أرمينيا والأرمن. ويرى إنديكيان، أنّ "باشينيان وصل إلى نقطة اللاعودة مع روسيا، بانتهاجه سياسية موالية للغرب، وبطبيعة الحال معادية لروسيا لأنّ أيّ تراجع الآن في هذا الصدد، سيكون بمثابة انتحار سياسيّ له واغتيال لما تبقّى من أرمينيا، وبالتالي أعتقد أنّه سينتهج سياسات أكثر انفتاحا وتقرّبا من الغرب في الأشهر القادمة إن بقي في الحكم، على غرار ما فعل بالنسبة للمحكمة الجنائيّة الدوليّة، إذ صدّقت أرمينيا على نظام روما الأساسيّ للمحكمة الجنائيّة الدوليّة، ما أغضب الروس وأدخل العلاقات الأرمينيّة-الروسيّة في توتر جديد، يصبّ في خانة مصلحة الغرب".(المشهد)