وقف قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، هذا الأسبوع أمام حشد من قواته بقاعدة عسكرية في مدينة بورتسودان المطلة على البحر الأحمر، ليلقي خطابا غير معتاد عليه منذ اندلاع القتال مع قوات الدعم السريع، منتصف أبريل الماضي، حيث يُعدّ هذا الظهور الأول للجنرال خارج المقرات العسكرية بالخرطوم.وبكلمات منمّقة وحماسية، راح البرهان يُشيد خلال خطابه، بجسارة قوات الجيش في المعارك الضارية، ويوجه التُهم إلى قوات الدعم السريع التي وصفها بـ"الخائنة"، على عكس منافسه الفريق أول محمد حمدان دقلو، الذي أعلن قبل ساعات من هذا الخطاب، عن رؤية قوات الدعم السريع لحل شامل للأزمة، ملمّحا في بيان نشره عبر منصات التواصل الاجتماعي، عن إمكانية الموافقة على ضم قواته إلى الجيش السوداني، من خلال تأسيس وبناء جيش جديد، وهو الأمر الذي كان موضع خلاف رئيسي أدى إلى اندلاع القتال. لماذا مصر أولى المحطات؟ وبعد ساعات من تعهّده بالانتصار واستبعاده أيّ فرصة للمفاوضات، غادر البرهان السودان في أول زيارة خارجية له منذ بداية القتال قبل 5 أشهر، حيث وصل الثلاثاء إلى مطار مدينة العلمين الساحلية في شمال القاهرة، للقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وعقب اللقاء، قال المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية في مصر، إنّ الرئيس السيسي أكد على موقف مصر الثابت والراسخ بالوقوف بجانب السودان، ودعم أمنه واستقراره ووحدة وسلامة أراضيه، خصوصا خلال الظروف الدقيقة الراهنة التي يمر بها، آخذا في الاعتبار الروابط الأزليّة والمصلحة الاستراتيجيّة المشتركة التي تجمع بين البلدين الشقيقين. وشهد اللقاء استعراض تطورات الأوضاع في السودان، والتشاور حول الجهود الرامية لتسوية الأزمة، حفاظا على سلامة وأمن السودان الشقيق، على النحو الذي يحافظ على سيادة ووحدة وتماسك الدولة السودانية، وفق ما جاء في بيان رئاسة الجمهورية في مصر، والذي أضاف: "كما تطرقت المباحثات إلى مناقشة سبل التعاون والتنسيق لدعم الشعب السوداني الشقيق، خصوصا عن طريق المساعدات الإنسانية والإغاثة، حتى يتجاوز السودان الأزمة الراهنة بسلام".في هذا الصدد، يعتبر خبير العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة، أحمد سيد أحمد خلال، حديثه مع منصة "المشهد"، أنّ "الجيش السوداني يثق في مصر ودورها المهم في حل الأزمة خلال المرحلة المقبلة، في إطار جهودها المتواصلة، خصوصا أنّ القاهرة ترفض استمرار الصراع القريب من حدودها، وأيّ تدخلات خارجية لدعم طرف على حساب الآخر".ويضيف أحمد أن "تكون مصر المحطة الأولى للجولة الخارجية، لها دلالة مهمة تكمن في إصرار مصر على حلّ الأزمة السودانية بالطرق السياسية". بدوره، يقول القياديّ في التجمع الاتحادي، والمتحدث باسم قوى الحرية والتغيير بالخارج عمار حمودة لمنصة "المشهد": "مصر دولة مهمة للغاية ومؤثرة في المشهد السوداني، وهناك الكثير من المصالح، والمخاوف أيضا. كما أنها تأثرت بما يحدث في بلادنا، ومن الطبيعي أن تكون أول محطة". ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن محلل الشأن السوداني بمعهد "ريفت فالي" مجدي الجزولي قوله، إنّ "مصر هي القوة الإقليميّة الرئيسيّة التي بيدها حل وعقد شؤون السودان". وأكد هذا أيضا المحلل السياسي السوداني المقيم في بريطانيا مصطفى سري سليمان، والذي يشير خلال حديثه مع منصة "المشهد"، إلى الاستقبال "الفاتر" الذي حظي به البرهان على حدّ تعبيره، "مع عدم وجود تمثيل وزاريّ أو سفراء معتمدين لدى القاهرة بحسب البروتوكولات المعمولة بها". ومصر التي هي أولى محطات البرهان الخارجية، عرضت التوسط بين طرفي النزاع في السودان، ضمن سلسلة من الجهود الدولية الرامية للحيلولة دون وقوع حرب أهلية مطوّلة، وتعميق أزمة إنسانية في البلاد. عن ماذا يبحث البرهان؟ قبل أيام من هذه الزيارة، نقلت وسائل إعلام سودانية عن مصادر قولها، إنّ قائد الجيش سيقوم بجولة خارجية موسعة تشمل دولا عربية وإفريقية عدة، بهدف البحث عن آفاق حل للأزمة التي أدت إلى نزوح 4.5 ملايين سوادني في الداخل والخارج، مع تفاقم الأوضاع الإنسانيّة والاجتماعيّة. وفي تصريحات أمام وسائل الإعلام بمصر عقب لقاء الرئيس السيسي، قال البرهان، إنّ "القوات المسلحة تسعى لإيقاف الحرب، وأنها ملتزمة بفترة انتقالية حقيقية، يستطيع بعدها الشعب السوداني أن يؤسس دولته من خلال انتخابات حرة نزيهة". واتفق خبراء ومحللون خلال حديثهم مع منصة "المشهد"، على أهمية ما قاله البرهان من "السعي نحو حلحلة الأزمة"، غير أنهم استبعدوا أن تُسهم جولة الجنرال الخارجية على نحو سريع في الوصول إلى توافق، خصوصا أنه قد يحرص على الترويج إلى وجهة نظره، والتي أبداها في خطابه الأخيرة بمدينة بورتسودان.ويعتبر المحلل السياسي السوداني عمسيب عوض خلال حديثه مع منصة "المشهد"، أنّ الجولة خطوة متقدمة على الرغم من أنها تأخرت كثيرا، قائلا: "أتوقع أن يكون لها تأثير كبير على مسار الأزمة. ولكن ليس في القريب العاجل".ويتفق مع هذا خبير العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة أحمد سيد أحمد، والذي يراها "جولة استكشافيّة لعرض وجهة نظر مجلس الجيش في ما يتعلق بالصراع، وتأكيد أنّ الجيش السوداني يواجه تمرّدا داخليا". ويضيف أحمد: "البرهان يسعى إلى كسب الدعم من الدول التي سيزورها في إطار حل الأزمة، وتذليل العقبات المختلفة التي تحول دون تحقيق ذلك. أعتقد أنّ قادة الدول ستستمع جيدا إلى البرهان، وستؤكد أيضا على أهمية الحل السياسي، ومنع تفاقم الأمور وتوسع دائرة القتال بمناطق أخرى". وإذا نظرنا من زاوية واحدة، قد نجد أنّ كل الدول التي سيزورها البرهان متأثرة بشكل أو بآخر من الحرب في السودان، بحسب ما يقول المحلل السياسي عمسيب عوض، مضيفا: "تلك الدول ستعمل جاهدة لإيقاف الحرب وفق ترتيب متفق عليه". لكنّ عوض عاد ليقول: "البرهان يبحث في المقام الأول عن دعم للجيش قبل الدخول في تفاوض، لأنّ خطابه في بورتسودان، ألمح إلى حصول قوات الدعم السريع على مساندة خارجية، وهو الأمر الذي قد يؤثر في مسار المفاوضات". بدوره، يعتبر المحلل السياسي مصطفى سري سليمان، أنّ هذه الزيارات بمثابة الفرصة الأخيرة للبرهان، من أجل الوصول إلى حل يلبّي مطالب الشعب "من دون أيّ مناورات" لوقف الحرب، وإبعاد الجيش عن السياسة، وتأسيس جيش موحد جديد، قائلا: "السودانيون لن يقبلوا بأيّ حكم يعيد تنظيم الحركة الإسلامية إلى المشهد السياسي من جديد، بعد خلعهم من السلطة". وهو الأمر الذي نفاه البرهان في تصريحاته من القاهرة، قائلا: "هناك أكاذيب تروّج بأنّ القوات المسلحة أصبحت حاضنة للجماعات الإسلامية الإرهابية".توحيد المبادرات ولم يُكشف بعد عن الدول التي ستشملها جولة البرهان الخارجية، غير أنّ تقارير إعلامية محلية أشارت إلى أنّ السعودية التي تلعب دور الوساطة منذ أشهر في سبيل حل الأزمة، ستكون ثاني محطات قائد الجيش السوداني. ويشدد المحلل السياسي مصطفى سري سليمان في حديثه لـ"المشهد"، على ضرورة توحيد المبادرات الداعية إلى حل الأزمة، قائلًا: "البلدان التي سيزورها البرهان تحتاج إلى توحيد كلمتها والتنسيق في ما بينها، حتى لا تحدث تعقيدات أكثر في الأزمة السودانية". ويضيف: "البلدان الداعمة للحل في حاجة إلى إجراء محادثات مع جميع الأطراف، بما فيها قوات الدعم السريع، لوقف الحرب وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية، ومن ثمّ إجراء محادثات سياسية شاملة، تهدف إلى وضع خريطة طريق لفترة انتقالية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة. فضلًا عن وضع خطط لإعادة إعمار ما دمرته الحرب". وتأمل قوى الحرية التغيير في السودان، وهو تحالف تشكل من أحزاب وحركات مدنية عدة، عقب ثورة 2019، أن تُسهم جولة البرهان الخارجية في وقف الحرب "والشروع بشجاعة في خطوات الحلول السياسية"، حسبما يقول القيادي في التجمع الاتحادي، والمتحدث باسم قوى الحرية والتغيير بالخارج عمار حمودة، خلال حديثه مع منصة "المشهد". ويضيف حمودة: "الدول التي ستشملها جولة البرهان لديها اهتمام باستقرار السودان والمنطقة. لهذا ستنخرط أكثر في تسهيل المفاوضات، وحشد الدعم لما بعد الحرب، خصوصا أنها باتت تتحمل الآن التداعيات الإنسانية للحرب". هل يعود البرهان إلى الخرطوم؟ وتواصل قوات الدعم السريع بسط سيطرتها على مناطق عسكرية ومؤسسات حكومية عدة في العاصمة الخرطوم، بحسب ما تشير تقارير إخبارية، وما يؤكده أيضا الخبراء خلال حديثهم مع منصة "المشهد"، مشيرين إلى أنه لا يوجد ما يمنع البرهان من العودة إلى السودان عقب انتهاء الجولة الخارجية، لكنه قد يستقر في الولايات الشمالية بعيدا عن الاقتتال الدائر بالخرطوم، إذ يقول المحلل السياسي عمسيب عوض: "من المتوقع عودة البرهان سريعا للسودان بعد نهاية الجولة. إلا أنه لا يتوقع أن يعود للخرطوم، وعلى الأرجح سيقيم في واحدة من الولايات الشمالية". ويتفق مع هذا المحلل السياسي مصطفى سري سليمان، قائلا: "ليس هناك ما يمنع. لكنّ عودته مرهونة بأن يتجه نحو طريق جديد ينهي الحرب، والجلوس مع القوى السياسية والمدنية لتسليم السلطة، والابتعاد عن حركات الإسلام السياسي، ودمج كل القوات المسلحة في جيش واحد وبعقيدة جديدة". في غضون ذلك، يتوقع خبير العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن يتخذ البرهان مدينة بورتسودان مقرًا بديلا لعمليات الجيش والحكومة السودانية، قائلا: "هي مؤمّنة بشكل كامل على عكس الخرطوم، التي تنتشر فيها قوات الدعم السريع حول القصر الرئاسي والقيادة العامة". وتبعد مدينة بورتسودان المطلة على البحر الأحمر (شرق) نحو 820 كيلومترا عن العاصمة الخرطوم، حيث لم تطلها معارك الجيش وقوات الدعم السريع التي انتشرت في مناطق مثل دارفور وجنوب كردفان. وأسفرت الحرب منذ اندلاعها عن مقتل نحو 5 آلاف شخص، وفق منظمة "أكليد" غير الحكومية. لكنّ الحصيلة الفعلية مرشحة لأن تكون أكبر، لأنّ العديد من مناطق البلاد معزولة تمامًا، كما يتعذّر دفن الكثير من الجثث المتناثرة في الشوارع، ويرفض الجانبان الإبلاغ عن خسائرهما.(المشهد)