شهدت كل من تونس والجزائر خلال الأيام الأخيرة حراكًا رسميًا اتسم بتبادل الزيارات على أعلى مستوى وتوقيع اتفاقات تُعنى بأمن وتنمية الحدود بين البلدين، وذلك وسط تطورات إقليمية ظهرت معها تحديات جديدة فرضت نفسها على الدولتين الجارتين. وأسفرت الاجتماعات رفيعة المستوى بين مسؤولي البلدين، عن توقيع مذكرة لتوسيع وتطوير التنسيق الأمنيّ بينهما لحماية الحدود، في ظل تنامي مخاطر الإرهاب والجريمة. كما تضمنت خطّة مشتركة لتنمية المناطق الحدودية. والجمعة الماضي أدّى رئيس الحكومة الجزائرية أحمد عطاف زيارة لتونس، التقى خلالها الرئيس قيس سعيّد وقبلها كان الرئيس التونسيّ قد عقد لقاءات على هامش إجتماع مؤتمر روما مع المسؤول الجزائريّ ووزيرَي خارجية البلدين. وفي السياق ذاته، كان وزير الداخلية التونسيّ كمال الفقيه قد أدّى زيارة للجزائر قبل أيّام رفقة عدد من الكوادر الأمنية التونسية رفيعة المستوى، إلتقى خلالها نظيره الجزائريّ ووقع مع ولاة المناطق الحدودية للبلدين، خريطة طريق لإحياء خطوط النقل بهدف تنفيذ مشاريع اقتصادية مشتركة. وشددت البيانات الصادرة عن كل هذه اللقاءات، علاوة على الحرص على تعزيز التعاون بين البلدين، على ضرورة تأمين الحدود المشتركة وتنميتهما، وهو ما يقول مراقبون إنه يعكس حجم التحديات والمخاطر المطروحة على الدولتين، في ظل التطورات الإقليمية المتسارعة في منطقة الساحل الإفريقي. مخاطر أمنية متزايدة في تونس والجزائروتأتي هذه اللقاءات التونسية الجزائرية المكثفة في وقت تتزايد فيه تحذيرات الخبراء من إنعكاسات التوترات في دول الساحل، وتنامي الجماعات المتطرفة والإرهابية هناك على دول شمال إفريقيا. وتشهد المنطقة توترات في أكثر من بقعة، ما يشير إلى إعادة التوازنات فيها، وتنظر دول شمال إفريقيا إلى منطقة الساحل بوصفها المجال الأمنيّ الحيويّ لها. ويقول المحلل السياسيّ والخبير الأمنيّ خليفة الشيباني لمنصّة "المشهد"، إنّ التطورات في منطقة الساحل تفرض على البلدين التعاطي مع كل المخاطر المحتملة، خصوصًا على المستوى الأمني. ويضيف، "في الحقيقة هناك توافق تاريخيّ مشترك بين تونس والجزائر حول أهمية للمناطق الحدودية، ودورها في معاضدة جهود المؤسستين العسكرية والأمنية، للتصدي للمخاطر الأمنية الناجمة عن تمركز الجماعات الإرهابية بها، تعود جذوره إلى فترة العشرية السوداء في الجزائر، ثم الحوادث التي عاشتها تونس بعد 2011". لكنه يشدد على أنّ "التطورات الأخيرة في مالي وفي منطقة الساحل وغرب إفريقيا ضاعفت من هذه الحاجة". ومنذ وصول الإسلاميّين للحكم في تونس، تنامى حضور الجماعات الإرهابية في المناطق الحدودية، وعاش البلد على وقع عمليات إرهابية خلال الأعوام الأولى التي تلت حوادث 2011. كانت تلك المناطق منطلقًا لها، فيما كشف التعاون الإستخباراتيّ بين البلدين عن وجود تنسيق بين عناصر إرهابية من الجهتين، وسمح بإحباط عدد من المخططات والقضاء على مدبّريها. أزمة الهجرة في الجزائر وتونسوهناك بين وتونس والجزائر 9 معابر برية حدودية تؤمن عبور السلع والأفراد بين البلدين، لكنهما يتشاطران حدودًا بطول 1034 كيلومترًا، ما ساهم في نموّ نشاط التهريب وجريمة الإتجار بالبشر. وقال الوزير التونسيّ خلال زيارته الجزائر، إنّ "استقرار تونس وأمنها من استقرار الجزائر وأمنها"، مضيفًا أنّ "البلدين يعملان على تعزيز الأمن بالمناطق الحدودية لمواجهة التهديدات الإرهابية، والتصدي لشبكات التهريب، ويحقذ لنا الإشادة بالتنسيق المثمر والبنّاء القائم بين المصالح الأمنية على مستوى الشريط الحدودي". وتشتكي تونس والجزائر في الأعوام الأخيرة، من زيادة كبيرة في تدفق المهاجرين غير النظاميّين الذين يسعون للهجرة إلى أوروبا، وغالبيتهم قادمون من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما فرض تحديات جديدة على البلدين من أجل ضبط حدودهما والتصدي لجريمة الاتجار بالبشر. ويقول الشيباني إنّ الجزائر وبفعل الإضطرابات الأمنية في منطقة الساحل صارت مقصدًا للمهاجرين غير النظاميّين الفارين من هناك، والذين ينتقلون في مرحلة موالية إلى تونس الأقرب لأوروبا، من أجل المشاركة في رحلة هجرة غير شرعية. ويتابع، "أصبحت أزمة الهجرة غير النظامية عبئًا كبيرًا على البلدين، علاوة على المخاوف من تسلّل الإرهابيّين وسط جحافل المهاجرين، وهو ما يستدعي يقظةً وتنسيقًا أمنيًا أكبر وأشمل بين الجزائر وتونس". ويرى أنّ انتشار التنظيمات المتطرفة وعصابات الاتجار بالبشر في منطقة الساحل، تشكل اليوم واحدة من المخاطر الأمنية على استقرار المنطقة. وفي مناسبات عديدة ضبطت تونس التي لا تملك حدودًا مباشرة مع دول الساحل، مهاجرين غير نظاميّين أكدوا أنهم تسللوا إلى حدودها قادمين من الجزائر أو من ليبيا. وفي الأعوام الأخيرة، شهدت تونس توافد آلاف المهاجرين غير النظاميّين عليها، ما تسبّب في توتر علاقتها بالإتحاد الأوروبيّ الذي سعى للضغط عليها من أجل القبول بتوطينهم. وفي يوليو الماضي، وقّعت تونس اتفاقًا استراتيجيًا مع أوروبا من أجل منع تدفق المهاجرين نحوها مقابل مساعدات اقتصادية. الفقر والعزلة على حدود تونس والجزائرلكن في المقابل يقلّل كثيرون من أهمية هذا الحراك الرسميّ بغية ضبط الحدود وتنمية مناطقها، ويستحضر هؤلاء اتفاقات سابقة بين البلدين بخصوصها لم ترَ طريقها للتنفيذ. وترتبط تونس والجزائر بالعديد من الاتفاقات المشتركة لتنمية الحدود. ويعاني سكّان المناطق الحدودية في البلدين حالة عزلة وضعف للتنمية، ضاعفتها طبيعة الجغرافيا المتشعّبة والوعرة، وهو ما جعل منها بيئة حاضنة لازدهار نشاط التهريب، وفق ما يؤكده الناشط الحقوقيّ بلقاسم المقراني الذي يشير في تصريح لمنصّة "المشهد"، إلى أنّ هذه المناطق تعيش وفق نواميس خاصة بها، بعيدة عمّا تسطّره الأجهزة الرسمية في البلدين، مضيفًا أنّ "المهرّبين خلقوا اقتصادًا موازيًا". ويتابع، "هناك على الحدود عائلات من البلدين تتحدث اللغة نفسها، وتتزاور وتتصاهر وتتقاسم الفقر والتهميش بعيدًا عن المؤسسات الرسمية". وتحوّل التهريب وفق الكثير من الدراسات التي تناولت المناطق الحدودية بين البلدين، ومن بينها دراسة لمركز "مالكوم كير كارنيغي للشرق الأوسط"، إلى "نشاط رئيسيّ بعد أن ضرب جذوره العميقة، وبات بالنسبة إلى بعض العائلات مهنة تتوارث من جيل إلى جيل". ويرتكز التهريب بين البلدين خصوصًا على المحروقات والموادّ الإلكترونية، وفي مرحلة حديثة على الموادّ الغذائية التي تعاني تونس نقصًا في الكثير منها. ويقول الشيباني إنّ تنمية هذه المناطق سيساهم في التصدي لعصابات الجريمة والمخدرات، ويقضي على الإرهاب، ويضيف "لذلك تم التركيز في الزيارات الأخيرة على مسألة التنمية، نظرًا لارتباطها اللّصيق بمقاومة كل أشكال الجريمة". وعلى هامش الزيارات الأخيرة طرح واليا تبسة الجزائرية والقصرين التونسية، مقترحًا لإحياء مشروع خطَّيْ النقل البرّي والنقل الحديديّ بين قسنطينة وحيدرة. ويقول المقراني إنّ ذلك "من شأنه في حال تنفيذه، أن يحقق التكامل الاقتصاديّ بين المناطق الحدودية التي ستفكّ عنها عزلتها". (تونس - المشهد)