يعود في كل مرة ملف العلاقات الجزائرية الفرنسية إلى الواجهة، بعد مرحلة من التجاذبات والتوترات خلال العام الماضي. ولعلّ آخر التطورات ملف الذاكرة، بعد أكثر من 60 عاما صادقت الجمعية الوطنية الفرنسية، على مقترح لائحة "تدين القمع الدموي والإجرامي الذي مورس على الجزائريين تحت سلطة محافظ الشرطة، موريس بابون في 17 أكتوبر 1961" بباريس، حيث قُتل خلالها مئات المتظاهرين السلميين، حسب شهادات المؤرخين، وهو ما يطرح تساؤلات حول خلفيات هذا القرار؟ وكيف ينعكس على مستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية؟ مجازر 17 أكتوبرفي هذا السياق، يرى الباحث في تاريخ الجزائر أنس مباركي في تصريح لـ"المشهد" أن هذا الاعتراف يأتي بعد سنوات من النضال ويُعد خطوة مهمة لتصحيح ملف الذاكرة التاريخية وتعزيز العلاقات بين الجزائر وفرنسا، مع تأكيد الرئيس الفرنسي سابقا على أن المجازر كانت "جرائم لا مبرر لها". للإشارة فإن هذا المقترح الأخير أيده 67 نائبا، وعارضه 11 نائبا من صفوف التجمع الوطني اليميني المتطرف، ويقترح مشروع القرار إدراج يوم لإحياء ذكرى المجزرة في جدول الأيام الوطنية والمراسم الرسمية.كما تم التذكير بأن صياغة النص شكّل موضوع "إعادة كتابة حرفية مع الحزب الرئاسي والإليزيه من أجل التوصل إلى صيغة تناسب السلطة التنفيذية"، حسبما أكدته البرلمانية صبرينة صبايحي، المبادرة بالنص، وأضافت أن "إدراج يوم للذكرى في أجندة الأيام الرسمية والمناسبات قد أدى إلى حدوث "نقاشات محتدمة دامت لأشهر وفي النهاية توصلنا إلى اتفاق". من جانبه، أكد النائب السابق، فيليب غيمار، الذي شارك في العمل، أن المناقشات كانت "كثيرة" وأن مقترح اللائحة قد تم "صياغته كلمة بكلمة"، حسب ما نقلته وسائل إعلام فرنسية وعن تطورات ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا يعدّد مباركي مجموعة من المؤشرات من بينها:هذا القرار سيمهد الطريق لتحقيق اعترافات كلية لفرنسا بجرائم الاستعمار التي ارتكبتها في حق الجزائريين، سواء في الجزائر أو داخل فرنسا نفسها.إعلان البرلمان الفرنسي رسميا قرارا ملزما بإحياء يوم رسمي في ذكرى القمع الفرنسي للجزائريين يعد خطوة كبيرة وانتصارا للجهود الحثيثة في تسوية ملف الذاكرة ودعما كبيرا لقيم الحرية والعدالة.مقتل مئات الجزائريينوفي ليلة 17 أكتوبر 1961، تم تصفية المئات من الجزائريين والجزائريات الذين نظموا تظاهرة سلمية بالعاصمة الفرنسية للتنديد بحظر التجول التمييزي الذي فرضه عليهم رئيس الشرطة آنذاك موريس بابون بأبشع الطرق فهناك من تم قتلهم رميا بالرصاص وهناك من تم إلقاؤهم في نهر السين ومنهم من تعرضوا للضرب حتى الموت أو تم شنقهم في غابة فانسان، حسب شهادات عناصر سابقين في الشرطة الفرنسية. وأكد المناضل محمد غفير عضو فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا إبان الثورة التحريرية، المعروف بـ"موح الكليشي" في تصريح لـ"المشهد "، أن تظاهرات 17 أكتوبر 1691 التي شارك فيها آلاف الجزائريين بقلب العاصمة الفرنسية باريس "آخر محطات الثورة التحريرية التي كللت بانتزاع الشعب الجزائري لاستقلاله".وأضاف "المجاهد غفير" الذي يعد من أبرز منظمي تظاهرات 17 أكتوبر 1961، أن خطوة القرار يقول إنها "مهمة لكن غير كافية"، وذكر بأن الشرطة الفرنسية قتلت 800 جزائري في يوم واحد، بينهم نساء وأطفال، وبقي 400 في عداد المفقودين حتى الآن، وأصيب 2400 بجروح إثر هذا القمع الوحشي.اعتراف ماكرونوكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2021، قد اعترف بهذه المجازر واعتبر أن"الجرائم التي ارتكبت تلك الليلة تحت سلطة موريس بابون قائد شرطة باريس في ذلك الوقت، لا مبرر لها بالنسبة إلى الجمهورية".ولأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة الفرنسية، قد أحيى ماكرون هذه الذكرى عبر التنقل لمكان الجريمة، ووضع إكليلا من الزهور على ضفاف نهر السين القريب من "جسر بيزون"، الذي سلكه قبل أكثر من ستين عاما محتجون جزائريون.وعن أهمية التقدم في مباحثات في ملف الذاكرة، يرى أستاذ التاريخ المعاصر محمد قشوان أن قضية أرشيف الاستعمار، الذي تطالب به الجزائر، بينما تتحفظ باريس على التخلي عن جزء منه، بذريعة أسرار الدفاع، لا يزال يشكّل جدلا كبيرا رغم ما تبذله اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ والذاكرة. وقال قشوان لـ"المشهد"، إن القرار الذي صدّ عن البرلمان الفرنسي مؤخرا يمثل صحوة للضمير الجمعي وإقرارا بالمجازر الفرنسية التي ارتكبت في الجزائر، ويدفع فرنسا اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الاعتذار وتعويض الضحايا وعائلاتهم التي ما زالت إلى الآن تعيش مخلفات وجراحات الاستعمار. وأضاف قشوان أن الجزائر تنتظر استرجاع العديد من الملفات من بينها الأرشيف والممتلكات المنهوبة ورفات رجال المقاومة، بالإضافة إلى الممتلكات الخاصة بالأمير عبد القادر وقادة المقاومة، وكذلك الجماجم المتبقية ومواصلة التعرف على الرفات التي تعود إلى القرن الـ19 مع إحصاء وجرد مقابر الأسرى والسجناء الجزائريين.(المشهد)