كان عام 2023 مليئا بالمفاجآت بالنسبة لتركيا، التي استفاقت في بدايته على زلزال دمّر مدنا بأكملها، وأسفر عن آلاف القتلى والجرحى. على المستوى السياسي، ساد البلاد نوع من العلاقات السياسية الخارجية المرنة، مقارنة مع نهج أنقرة السابق مع دول عديدة، ولا سيما جارتها اليونان، الأمر الذي لم يكن كذلك على المستوى الاقتصادي، في وقت لم يستقر فيه الوضع الاقتصادي في البلاد، كما أن الإجراءات المختلفة، لم تؤدِ إلى نتائج ملموسة.أحداث مفصلية في تركيا 2023 لعلّ أبرز حدث كان في تركيا العام الفائت هو فوز إردوغان في الانتخابات الرئاسية للمرة الثالثة على التوالي، محافظا بهذا الفوز على النهج الذي سارت عليه تركيا منذ استلام العدالة والتنمية للحكم. وعلى الرغم من المنافسة الشرسة التي خاضها إردوغان مع المعارضة التركية والتي شكلت تحالفا سداسيا ضده، استطاع وبفارقٍ ضئيل كسب معركة الانتخابات، وأطاح بمنافسه حينها كمال كيليجدار أوغلو ليس فقط بالانتخابات، بل من رئاسة الحزب المعارض الأكبر في البلد "الشعب الجمهوري"، في وقت حمّل فيه البعض خسارة الانتخابات لكيليجدار أوغلو وشخصيته "غير المهيئة" لمنافسة خصم قوي مثل إردوغان. في سياق منفصل، يعدّ الزلزال أحد العواصف القوية التي هزت تركيا عام 2023، إذ لم تشهد البلاد زلزالا بهذه القوة من عام 1999. في 6 فبراير 2023 ضرب زلزالان مدمّران بقوة 7.7 و7.6 درجات على مقياس ريختر جنوب شرق تركيا، وأسفر الزلزالان عن وفاة أكثر 45 شخصا، وحدوث دمار كبير في المباني والبنية التحتية. وبعد ذلك، طالت الحكومة التركية انتقادات كثيرة حول طريقة تعاطيها مع الكارثة، في حين قالت بعض المنظمات الحقوقية إنه تم التمييز بين الأكراد والأتراك من ناحية تقديم المساعدات الإنسانية اللازمة. في المقابل، ألقى إردوغان باللوم على طقس الشتاء القاسي الذي غطى الطرق الرئيسية بالجليد والثلوج وألحق أضرارا بعدد من الطرق وأوقف مطارات عن العمل.اتباع السياسية "الناعمة" استمرارا لنهج التطبيع الذي بدأت فيه أنقرة في النصف الثاني من العام 2022، عملت الأخيرة على إكمال عمليات التطبيع مع دول عدة في المنطقة كانت لها خلافات معها في السابق، ولعلّ أبرز هذه الدول مصر واليونان. في ديسمبر، قام إردوغان بزيارة إلى اليونان "الخصم التاريخي" للبلاد، في زيارة رسمية هي الأولى له منذ سنوات، تلبية لدعوة من رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتشوتاكيس، وتبادل الجانبان خلال الزيارة تصريحات ودّية، أبدت رغبتهما في إصلاح وتعزيز العلاقات. فيما مثلت هذه الزيارة تغيرا واضحا في سياسية إردوغان تجاه أثينا الذي هدد سابقا بأنه سيجتاحها إذا اضطر لذلك. في مارس، التقى وزير الخارجية التركي السابق مولود جاويش أوغلو بنظيره المصري سامح شكري في القاهرة، معلناً استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد انقطاع دام أكثر 11 عاماً. كذلك وقّع إردوغان على بروتوكول انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأحاله إلى البرلمان التركي، الأمر الذي سعت إليه الولايات المتحدة الأميركية منذ الأشهر الأولى للحرب الروسية - الأوكرانية.وقبل الانتخابات التركية التي جرت في مايو، عقد وزير الخارجية التركي حينها مولود تشاويش أوغلو ونظيره السوري فيصل المقداد لقاءً، هو الأول من نوعه منذ عام 2011، وبحضور وزراء خارجية روسيا وإيران، وذلك كجزء من مسار عودة العلاقات السورية – التركية الذي رعته روسيا قبل الانتخابات التركية، في حيت اعتبر البعض أن إردوغان انقلب على هذا المسار بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية، حيث مثل ملف اللاجئين السوريين في البلاد ورقة رابحة في الانتخابات.العلاقات بين تركيا وإسرائيلبعد مواقف إردوغان شديدة اللهجة تجاه إسرائيل في حربها على غزة، رأى البعض أن الموقف التركي أطاح بالعلاقات العائدة الحديثة بين الجانبين بعد سنوات من القطيعة. لكن على الرغم من التصريحات التركية تجاه نتانياهو، لم تقطع أنقرة علاقاتها مع تل أبيب، وانحصر موقفها على الجانب الإعلامي فقط. فُسر ذلك على أن تركيا لا تريد تكرار السيناريو الماضي وقطع علاقاتها مع تل أبيب، الأمر الذي يضر بها اقتصاديا بالمقام الأول، وتريد أن تكون جزءا من موقف دولي مشترك، وألّا تكون منفردة في مواقفها وقراراتها. وعبّر عن ذلك صراحة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بلقاء صحفي قال فيه إن أنقرة ستحذو حذو الدول الأخرى تجاه إسرائيل ولا سيما الدول العربية. ولا بد من الإشارة إلى أن إردوغان التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ولأول مرة وجها لوجه في سبتمبر الماضي، ضمن اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي غضون هجوم 7 أكتوبر كان من المقرر أن يزور إردوغان إسرائيل، لكن تم إلغاء الزيارة.أبرز مواقف إردوغان خلال حرب غزة: "حماس" ليست منظمة إرهابية، بل حركة مقاومة مشروعة ضد الإسرائيليين. إسرائيل دولة مجرمة حرب، وستتخذ تركيا إجراءات قانونية ضد إسرائيل على الساحة الدولية فيما يتعلق بجرائم الحرب المرتكبة في قطاع غزة. الولايات المتحدة وأوروبا مسؤولتان أيضا عن جرائم الحرب المرتكبة في قطاع غزة. نتانياهو "جزار غزة" وسيُحاكم كـ "مجرم حرب". شبّه الرئيس التركيّ رجب طيب إردوغان رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتانياهو بالزعيم النازي أدولف هتلر.لكن لعل أبرز ما يميز تصريحات إردوغان أنها موجهة إلى شخص نتانياهو، ما قد يكون من أجل حفاظ إردوغان على العلاقات مع أي حكومة إسرائيلية مقبلة بعد نتانياهو. توقعات تركيا 2024في ظل هذه التطورات التي شهدتها تركيا، يتوقع المحلل السياسي المختص في الشأن التركي محمود علوش في حديث إلى منصة "المشهد" أن " تركيا تنهي عام 2023 بتحولات على مستوى السياسية الخارجية، التي كانت قد أطلقتها قبل 3 سنوات، وذلك بهدف إصلاح علاقاتها مع دول المنطقة، وكذلك إعادة تشكيل علاقاتها مع الغرب من منظور الواقعية الجيوسياسية". وبحسب علوش هناك عدد من الأمور التي سيتعين على تركيا التعامل معها في 2024 أبرزها: أحد أهم الأحداث التي تنتظر تركيا في 2024 هي الانتخابات المحلية، والتي لن تكون عادية أو مُجرد انتخابات لإعادة تشكيل المجالس المحلية، وستكون كجزء من المشهد السياسي التركي في السنوات لـ5 المقبلة. سيتعين على تركيا في 2024 تركيز جهودها الخارجية لتعزيز علاقاتها الجديدة مع الغرب. وفي هذا السياق، ستحتل عضوية السويد في حلف الناتو، إتمام صفقة F-16 صدارة قائمة اهتمامات أنقرة في العام الجديد. ستكون حرب غزة عامل ضغط على العلاقات التركية – الإسرائيلية، لكن في الوقت ذاته شكلت الحرب فرصة مهمة لأنقرة لتعزيز حضورها في القضية الفلسطينية. تعتبر الزيارة المتوقعة التي سيُجريها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا مطلع العام الجديد محطة مهمة لتطوير العلاقات التركية – الروسية. ومن المرجح أن تواصل تركيا دورها كوسيط بين موسكو وكييف في 2024. سيكون لنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية أثر كبير على سياسة تركيا الخارجية، في وقت تبدو فيه أنقرة تعمل على تكوين علاقة عمل مع إدارة الرئيس الحالي جو بايدن والمضي بها في حال نجح في البقاء في السلطة. وفي الإطار ذاته، لدى تركيا علاقة جيدة مع الرئيس السابق دونالد ترامب في حال فوزه.فيما يشير علوش إلى التحديات التي تواجه تركيا في العام الجديد بـ3 نقاط، والتي تُشكل محور السياسة الخارجية التركية، فيما يتطلب نجاحها تحقيق التوقعات المرجوة منها جميعا لأنها مترابطة فيما بينها، وهي: التفاعل المرن مع الضغوط والفرص المتاحة في العلاقات المتشابكة مع روسيا والغرب. إنتاج سياسة أكثر فاعلية في التعامل مع التحديات الجيوسياسية الشرق أوسطية الجديدة التي أفرزتها الحرب الإسرائيلية على غزة.تعظيم الدور التركي في الجغرافيا السياسية الجديدة، التي تشكّلت في جنوب القوقاز، بعد نجاح أذربيجان في استعادة السيطرة الكاملة على إقليم ناغونو كاراباخ.الاقتصاد التركي "غير مبشر" في عام 2022، خفّض إردوغان أسعار الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة وصلت إلى 9%، لكن بعد اكتشافه أن السياسية التي يتبعها غير مجدية وتؤدي إلى تدهور الوضع الاقتصادي أكثر، ابتعد إردوغان عن هذه السياسية، وبعد فوزه بالانتخابات، عيّن فريقا اقتصاديا معروفا بسياسته المشجعة لرفع نسب الفائدة، مخالفا نظريته الشهيرة التي يقول فيها إن "الفائدة هي السبب والتضخم هو النتيجة". وعيّن إردوغان محمد شيمشك، وزيرا للاقتصاد، وحافظة غاية إركان كرئيس للبنك المركزي التركي، مفتتحا بهما سياسية اقتصادية تركية جديدة، تعتمد على مبادئ وأسس "العقلانية الاقتصادية" و"الأرثوذكسية الاقتصادية". ولعل أبرز القرارات الاقتصادية التي اتخذها إردوغان قبل الانتخابات هو زيادة في الأجور والرواتب بمعدل 25%. وبالفعل بعد تولي الفريق الاقتصادي الجديد مهامه، اتخذ قرارات عدة من شأنها أن تسهم في استقرار الوضع الاقتصادي وتخفيض نسبة التضخم، أولها رفع نسبة الفائدة. إذ قام البنك المركزي طوال الفترة الماضية برفع نسب الفائدة تدريجيا، ووصلت مؤخرا إلى 42.5 %.في هذا السياق، يقول الباحث والأكاديمي التركي المتخصص بالاقتصاد باقي دميرال في تصريح إلى منصة "المشهد" إن "سياسات تخفيض نسب الفائدة التي تم تنفيذها في عام 2022 (من قبل الحكومة التركية) أدّت إلى تعميق مشكلة التوزيع غير المتكافئ في تركيا، ومع ازدياد سعر الصرف في نوفيمبر وديسمبر من العام ذاته بدأ التضخم بالتصاعد، لأن أهم أسباب ارتفاع التضخم في تركيا هي هيكلها الاقتصادي المعتمد على الخارج وارتفاع أسعار الصرف، والشركات الاحتكارية التي ترى في ارتفاع سعر الصرف فرصة لزيادة أرباحها، كما أن ارتفاع الضرائب غير المباشرة والآثار التضخمية المترتبة على زيادة هذه الضرائب".ويضيف دميرال "كما نتج عن آلية الودائع المحمية بسعر الصرف المقررة عام 2022 بقاء سعر الصرف مستقراً نسبياً في النصف الأول من عام 2023، وتراجعت وتيرة التضخم خلال هذه الفترة، لكن الانتقادات الموجهة ضد الانتخابات الرئاسية، وخاصة سياسة الودائع المحمية بسعر الصرف، والسياسات الشبيهة بسياسات صندوق النقد الدولي التي بدأت بوعود السياسة الأرثوذكسية الكاملة وتم تنفيذها بعد الانتخابات، وسياسة الفائدة المرتفعة وتحرير سعر الصرف كوسيلة لإدارة الديون، والتي وصفت بخطوات التقشف، كلها أدت إلى ارتفاع سعر الصرف والضرائب غير المباشرة والتضخم في تركيا مرة أخرى، مما تسبب في اتجاه تصاعدي".وبرأي دميرال "كما هو الحال مع سياسة الفائدة المنخفضة، أدت سياسة الفائدة المرتفعة أيضاً إلى زيادة مشكلة التوزيع، كما أدت سياسة الأجور المنخفضة إلى تعميق الفقر، وبدلاً من النمو الاقتصادي، دخلت البلاد مرحلة الركود. والسبب في كل هذه السياسة هو الاعتماد على العملات الأجنبية وجذب الأموال الساخنة".ويعتقد دميرال أنه "في عام 2024، واستمراراً لهذه السياسة، سيعمل البنك المركزي التركي على زيادة أسعار الفائدة مرة أخرى وإزالة الضوابط على رأس المال تماماً. وستحاول السياسات الحكومية في جذب المستثمرين الأجانب من خلال تقديم أسعار صرف وأسعار فائدة أعلى. وبعبارة أخرى، فإنها ستقبل بمطالب المؤسسات المالية العالمية، وهذه السياسة تعني المزيد من البطالة والفقر، وبطبيعة الحال، سوف يرتفع التضخم أكثر مع زيادات إضافية في سعر الصرف والبائعون المحتكرون الذين سيستفيدون من ذلك".هذا الوضع هو مرحلة من الركود التضخمي، بحسب دميرال الذي يقول إنه في ظل ظروف الاقتصاد العالمي، الذي أصبح تجاريا بشكل متزايد، فإن السياسة التجارية القائمة على أسعار الصرف المرتفعة والأجور المنخفضة ليس لديها أي فرصة للنجاح. هذه السياسات ستخلق فقراً اقتصادياً، وقد تتسبب أيضاً في زيادة عجز الحساب الجاري".وينهي الاقتصادي التركي حديثه إلى "المشهد" قائلا "نتيجة لكل ما سبق فإن السياسة الأرثوذكسية لا تقدم وصفة للخلاص الاقتصادي لتركيا".(المشهد)