بعد هدوء حذر في شمال شرق سوريا بين العشائر العربية والقوات الكردية، سرعان ما اشتعلت الاشتباكات مجددا، في وقت لم يقبل فيه قسم من المكوّن العشائري بمن فيهم شيخ قبيلة العكيدات إبراهيم الهفل، الهدنة، متعهّدا بمواصلة القتال ضد قوات سوريا الديمقراطية "قسد". نتيجة لذلك، طوال الأيام الماضية، حاولت القوات العشائرية إعادة السيطرة على مدينة ذيبان معقل الشيخ الهفل، وبالفعل سيطرت عليها الساعات الماضية، إلا أنّ قسد استعادتها بسرعة، ما يشي بتحوّل المعركة بين الجانبين إلى كرّ وفرّ، من دون وجود نتيجة واضحة وحاسمة للمعارك. باتت منطقة شمال شرق سوريا مسرح تنافس دولي، وعلى الرغم من مساحة المنطقة الصغيرة، إلّا أنّ قوى عالمية كبرى تتشارك في التنافس عليها، لأسباب مختلفة، منها لسرقة النفط المتدفق من آبارها، ومنها لإفشال المشاريع التي يراها البعض تهدّد أمنه القومي، ومنها لاستخدامها كباب يطلّ على الدول المجاورة.تعاون سوري تركي ضد قسد؟يقسّم نهر الفرات دير الزور إلى نصفين، شمالي وجنوبي، تسيطر قوات سوريا الديمقراطية وحلفائها على القسم الشمالي، فيما تسيطر دمشق على القسم الجنوبي. بالنسبة لأنقرة، فهي تسيطر أيضا على مناطق ليست ببعيدة عن كلا الجانبين، وتنشر جزءا من قواتها داخل هذه المناطق، وتعتمد بشكل كبير على الفصائل المسلحة التابعة لها، والتي تمدّها بالسلاح لحماية هذه المناطق الواقعة تحت سيطرتها. على الرغم من الخلافات الكبيرة بين أنقرة ودمشق، المتمثلة بتدخل تركيا العسكريّ في سوريا، وشنها عمليات عسكرية، ودعم المعارضة السورية في شقّيها المسلح والسياسي، إلا أنّ الجانبين يجمعهما "المشروع الكردي".ترفض كل من أنقرة ودمشق بشكل قاطع، وجود أيّ إدارة ذاتية منفصلة عن الدولة السورية في شمال شرق البلاد، إذ ترى تركيا في ذلك خطرًا على أمنها القومي، فيما ترى سوريا أنّ الأكراد استغلوا الحرب الدائرة في البلاد لإقامة مشروع انفصالي، يقتصّ المناطق الأكثر ثراءً من البلاد. هذا الرفض التركي-السوري لأيّ إدارة كردية، يثير التكهنات حول أيّ تعاون بين الجارتين من أجل القضاء على المشروع الكرديّ كما يسمونه.في هذا السياق يقول المحلل السياسي التركي فراس أوغلو في حديث إلى منصة "المشهد"، إنّ:التعاون السوريّ -التركي قد يكون واردا كتعاون استخباراتيّ من دون التعاون في مجالات أخرى. على المستوى الإعلامي من الواضح أنّ كلا الطرفين يدعم العشائر العربيّة، ويرفض الكيان الكردي. لكن لا يوجد إشارات اليوم على وجود عمل عسكريّ مشترك بين الجانبين ضد القوات الكردية، وذلك بسبب الخلافات الكبيرة بين أنقرة ودمشق.الوساطة الروسية والإيرانية لتطبيع العلاقات لم تأتِ بنتائج. ويضيف أوغلو: "من المستحيل أن تستطيع أنقرة تقديم مساعدات للعشائر العربية في ظل الوجود الأميركي، كذلك هناك انقسام عشائريّ، وبالتالي يوجد قسم لا يقبل الدعم التركي. بالإضافة إلى أنه ليس من مصلحة تركيا الاصطدام المباشر مع الولايات المتحدة". في المقابل يرى مدير مركز إعلام وحدات حماية الشعب الكردية سيامند علي في تصريح خاص إلى منصة "المشهد"، أنّ "المشاكل بين أنقرة ودمشق لا تعدّ ولا تُحصى، لكنهم يتفقون على أمر واحد وهو معاداة قوات سوريا الديمقراطية، الجهتان تتفقان في أيّ ملف أو صراع يُفتح لإضعاف قسد، وبالتالي قد يكون هناك اتفاق غير معلن بينهما في هذا الإطار، لضرب استقرار مناطق الإدارة الذاتية". وحول ما تمّ طرحه في وقت سابق عن إمكانية دمج قسد بالجيش السوري، قال علي، "قسد تتكون من مكونات المنطقة كافة، وقوات سوريا الديمقراطية هي مشروع لبناء جيش سوري، تحت منظومة جيش سوريا، ضمن أطر وخصوصيات محددة، لكنّ المشكلة هي من جانب دمشق، كونها تريد العودة إلى وضع ما قبل 2011، وهذا غير ممكن بسبب الظروف التي مرت فيها البلاد والمنطقة بشكل عام".استمرار القتال تُعتبر منطقة "شرق الفرات" منطقة تنافس جيوسياسي، تحتوي على أكبر آبار النفط في سوريا، وتتشارك قوى أجنبية خارجية في القتال فيها، سوريا ومن خلفها روسيا وإيران من جهة (مع اختلاف الأهداف الروسية - الإيرانية)، الأكراد والولايات المتحدة من جهة ثانية، تركيا والفصائل المسلحة الموالية لها من جهة ثالثة. جميع ما سبق ساهم في احتقان عشائريّ على ما يحدث في منطقتهم، تزامن ذلك مع تراجع دورهم بشكل كبير، حتى أنّ المجلس العسكري الذي تقوده العشائر، سيطر عليه أحمد الخبيل (أبو خولة) الذي كان اعتقاله شرارة التوترات، إذ شعرت القبائل أنها مهمّشة إلى حدّ كبير، والجميع يتقاسم ثروات مناطقهم. في هذا السياق، قالت مصادر عشائرية لمنصة "المشهد"، فضّلت عدم الكشف عن هويتها، إنّ "المعارك لا تزال مستمرة ضد قسد، وأبناء العشائر لا يمكن أن يهدأوا، خصوصا أنّ المعارك الماضية أوقعت عددا من الضحايا، ولا بدّ على الأقل من الثأر لهم".وأضافت المصادر، "إذا تم الاستسلام أمام قسد فإنها ستهيمن أكثر وأكثر على المنطقة، وستزيد من غطرستها، ومن استغلالها لنا. هم يريدون تحجيم العشائر وهذا لا يمكن أن يحدث، المنطقة بالأساس لنا، والأشجار التي عليها أجدادنا زرعوها، فكيف يمكن أن نصمت ونستسلم للأكراد؟". وبيّنت المصادر أنّ "أكبر دليل على عدم الاستسلام على الرغم من الخسارة في عدد من المعارك، هو استعادة أبناء العشائر بلدة ذيبان قبل ساعات، ولولا الدعم الأميركيّ الواضح والعلنيّ لقسد، لما استطاعت الأخيرة فرض سيطرتها على البلدة مجددا". بداية شهر سبتمبر الجاري، بدأ التحالف الدوليّ بقيادة الولايات المتحدة أولى الخطوات من أجل إنهاء الاقتتال الدائر في ريف دير الزور. وأعلنت السفارة الأميركية في سوريا حينها، أنّ نائب مساعد وزير الخارجية الأميركية إيثان غولدريتش، وقائد عملية "العزم الصلب"، اللواء جويل فويل، اجتمعا مع قادة "قسد" و"مجلس سوريا الديمقراطية" (مسد)، وزعماء العشائر في دير الزور. وبحسب السفارة، فقد جرى الاتفاق "على أهمية معالجة مظالم سكان دير الزور، ومخاطر التدخل الخارجي في المحافظة، في تلميح لعناصر كردية إيرانية وتركية، وضرورة تجنّب سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، ووقف تصعيد العنف في أسرع وقت ممكن". يشرح القيادي الكردي قائلا: "كان هناك قصف عشوائيّ من قبل تركيا على خطوط التماس كافة، مستغلة انشغال قوات سوريا الديمقراطية في الفترة الأخيرة بالمعارك، مستخدمةً الأسلحة الثقيلة والطائرات المسيّرة، تزامن ذلك مع اجتياح بريّ أيضا، حيث تصدت قوات سوريا الديمقراطية لتلك المحاولات. تركيا هي الوحيدة المستفيدة من هذه المخططات، وتريد إشعال الصراع". ويضيف "تركيا تتحكم بالميليشيات في المناطق التي تحتلها بالشمال السوري، والجميع يعلم أنّ هذه المنطقة أصبحت أعشاشا للجماعات الإرهابية، وهناك العشرات من الفصائل على لوائح الإرهاب العالمية، وفجأة وبما يتناسب مع مصالح أنقرة، غيّرت العديد من هذه الفصائل أسماءها تحت مسمّى العشائر العربية لضرب الإدارة الذاتية". ويؤكد أنّ "أنقرة تستغل أيّ ثغرة وأيّ حدث يضرب بقوات سوريا الديمقراطية، وأحداث دير الزور أكبر شاهد على ذلك، حيث قامت بشنّ عشرات الهجمات المدفعية أو عبر مسيراتها، مستهدفةً القيادات في قسد، الذين هم رأس الحربة في محاربة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسهم تنظيم داعش الإرهابي".الانسحاب الأميركي من سوريا منذ دخولها في الحرب السورية بحجة القضاء على تنظيم داعش الإرهابي، تمسكت واشنطن بالمناطق التي سيطرت عليها في دير الزور وجنوب شرق الحسكة، وذلك لأنّ الانسحاب منها من شأنه ترك الساحة السورية لخصم واشنطن، روسيا، وكذلك يساعد الحكومة السورية في السيطرة على حقول النفط ومن ثم إعادة نفوذها إلى المنطقة. لكن بالنظر إلى تاريخ التدخلات الأميركية في بلدان العالم، خصوصا أفغانستان، تشي هذه التجارب إلى الانسحاب الأميركيّ من سوريا سواء اليوم أو بعد 10 سنوات، خصوصا أنّ القيادات الأميركية المتعاقبة تختلف في سياساتها تجاه التدخل الأميركي في البلاد. ومن هذا المنطلق يجادل كثيرون حول مصير الأكراد في حال أيّ انسحاب أميركي من شمال شرق سوريا. حول ذلك يلفت علي إلى أنّ "قسد تعتمد على نفسها وعلى قواتها بالدرجة الأولى، ولها علاقات جيدة مع التحالف الدولي، أيضا للإدارة الذاتية علاقات جيدة مع روسيا، وهناك أبواب دبلوماسيّة مفتوحة مع الاتحاد الأوروبيّ ومع دول عربية". وحول سقوط الإدارة الذاتيّة في حال انسحاب القوات الأميركية يردّ علي، "هذا الأمر غير دقيق وبعيد، إذ يوجد العديد من المناطق التي لا تسيطر عليها قوات التحالف الدولي مثل الرقة ومدينة منبج، والطبقة وكوباني، ولا تزال قوات سوريا الديمقراطية موجودة وتقوم بإدارة مؤسساتها العسكرية والمدنية". في حين يبيّن فراس أوغلو، أنه "في حال الانسحاب الأميركيّ سيكون الأكراد في موقف سيّىء جدا، وسيستسلمون في حال هجوم تركيا أو روسيا ودمشق عليهم. في حال كهذه قد يكون هناك تدخّل من دولة أخرى، فرنسا على سبيل المثال، لكن بالتأكيد لا يمكنها أن تنوب عن الدور الأميركي".(المشهد)