بعد أكثر من 3 عقود تعود موسكو إلى أفغانستان لكن هذه المرة من بوابة علاقات ثنائية تبدو قائمة على أرضية براغماتية تستند إلى مقولة "عدو العدو صديق"، لتمد يدها إلى حركة طالبان المنبوذة أميركياً وغربياً، والتي كانت أعز حلفاء الأطلسي في حرب كانت أبرز عوامل انهيار الاتحاد السوفياتي حسب العديد من المراجع التاريخية.في المشهد العام، تبدو الخطوات الروسية الأخيرة متناغمة مع مواقف حلفاء موسكو من حركة طالبان في كل من بكين وطهران، باعتبارها تسلّمت الحكم في أفغانستان بإرادة أميركية مطلقة بعد الانسحاب المفاجئ للقوات الأميركية من كابل قبل عامين. لكن، يبدو أن الكرملين يخطط الذهاب إلى أبعد من مجرد علاقة سياسية بحكم الأمر الواقع، في إشارته إلى دراسة إزالة الحركة عن قوائم الإرهاب، في خطوة يمكن اعتبارها مناكفة لواشنطن والمعسكر الغربي المقرّ بإرهابيّة الحركة. هذا وقالت روسيا إن لديها أمورا مهمة لتناقشها مع زعماء حركة طالبان الأفغانية وإنها تعمل على رفع اسم الحركة من قائمتها للمنظمات الإرهابية المحظورة. وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف للصحفيين "هذا بلد مجاور لنا ونتواصل معه بطريقة أو أخرى".طالبان والاعتراف الدولي منذ الانسحاب الأميركي من أفغانستان عام 2021، حاولت الأخيرة انتزاع اعتراف رسمي من الدول، وعلى الرغم من إرسالها دبلوماسيين إلى دول حول العالم (الصين وقطر وتركيا وباكستان وروسي) إلّا أنها لم تنجح في ذلك. ولعل أبرز إنجاز استطاعت أن تحققه هو تعيين الصين رسمياً سفيراً جديداً في أفغانستان، وذلك بعد أن قدم سفيرها أوراق اعتماده في حفل خاص أقيم في كابل، العام الماضي، وكانت الصين أول من قامت بهذه الخطوة. ونتيجة للخطوة الصينية لم يستبعد الكثير أن تحذو الدول الحليفة للصين حذوها تجاه طالبان، وعلى رأسهم روسيا وإيران، خصوصا وأن طالبان موجودة بالقرب من هذه الدول، والعلاقات معها قد تصبح بحكم الأمر الواقع، نظرا لعدم وجود أي جهة يمكن التسبيق والتعامل معها داخل البلاد. وستحصد طالبان مكاسب كثيرة في اعتراف روسيا فيها رسميا، لعل أبرزها أن الأخيرة دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، ولديها حق النقض (الفيتو) يمكن استخدامه في أي قرار دولي لا يخدم الحركة. ولا بد من الإشارة إلى أن المجتمع الدولي وضع شروطا من أجل الاعتراف بحكومة طالبان، منها: إعطاء المرأة الأفغانية حقوقها وإشراكها في الحياة وحقها في التعليم. الحل السياسي للأزمة في أفغانستان، وتشكيل حكومة انتقالية. قطع العلاقات مع الجماعات الإرهابية. السماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى الأراضي الأفغانية. خروج الأفغان الذين يريدون مغادرة البلاد. هذا ووصلت إلى السلطة عام 1994 بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي عام 1989، وأزيحت عن السلطة بعد التدخل الأميركي عام 2001، وعادت إليها بعد انسحابها عام 2021.العلاقات الروسية مع طالبان لم يكن لروسيا علاقات سليمة مع أفغانستان في العقود الماضية، ففي عام 1979، غزا الجيش السوفياتي أفغانستان، وذلك كجزء من الحرب الباردة التي كانت موجودة آنذاك مع الولايات المتحدة، وانسحب عام 1989، أي مع بداية تفكك الاتحاد السوفياتي. وتعتبر حركة طالبان اليوم، هي النسخة الجديدة من المقاتلين الذين حاربوا الجيش السوفياتي في تلك الفترة، والمتغيرات الدولية التي حصلت في العقدين الماضيين قربت من الجانبين، وخصوصا في ظل محاربة الولايات المتحدة للحركة. وفي هذا السياق، يقول الخبير بشؤون الإرهاب أحمد سلطان في حديث إلى منصة "المشهد" إن "روسيا من أوائل الدول التي أقرت ضمنيا بحكم حركة طالبان، لكن لم تعلن ذلك رسميا باستضافة ممثلين للحركة في موسكو". ويضيف سلطان "روسيا أبقت بعثتها الدبلوماسية قي كابل، وتتعاون مع الحركة فيما يتعلق بمسائل الأمن والاستقرار، وتحاول ألّا يوجد اضطرابات في منطقة وسط آسيا، باعتبارها منطقة حيوية لروسيا، وبالتالي أي اضطراب سيؤثر على الأمن القومي الروسي".ويشير سلطان إلى أن "روسيا تتعاون مع طالبان على أنها طرف يمكن التعامل والوثوق به، وقد نشهد في المستقبل القريب اعترافا روسيا رسميا بنظام طالبان".بدوره، يشرح المتخصص في الشأن الروسي عمرو الديب في حديث إلى "المشهد" أن "روسيا مضطرة إلى التواصل الدبلوماسي مع طالبان والتي ما زالت في قوائم الجماعات الإرهابية بدافع محاربة داعش، فلا توجد قوى سياسية أو عسكرية داخل أفغانستان قادرة على التعاون مع روسيا سوى طالبان فقط. أي دوافع روسيا هو وجود طالبان في السلطة، ولأنه لا أمل في أي جماعات معارضة يمكن أن تهدد طالبان".ويبين الديب أن بعد العمل الإرهابي في موسكو طالبان ساعدت في القبض على أفراد متهمين في هذا العمل، وهذه الأخبار تعني أن هناك نية حقيقية لدى طالبان في التعاون مع موسكو". فقط يظل السؤال هنا وفق الديب، إلى أي مدى يمكن أن يصل التعاون بين الطرفين؟، خصوصا مع وجود نية بمشاركة طالبان في القمة الروسية الإسلامية التي ستعقد في قازان مايو المقبل، وإن تم هذا فسنكون أمام مرحلة جديدة من العلاقات الروسية مع جماعة حتى الآن تصنّفها إرهابية".ما مصلحة روسيا؟وعلى الرغم من أن طالبان تحارب بشكل أساسي تنظيم داعش خراسان، فإن موسكو قد تطلب فرض المزيد من القيود والإجراءات ضد التنظيم مقابل الدعم الروسي لطالبان في المحافل الدولية.ويرى الديب أن روسيا ستجني من وراء علاقاتها مع طالبان:أن تكون روسيا لاعبا أكثر فاعلية في أفغانستان من خلال تعاونها مع طالبان.أن يكون لروسيا شريك يمكن الاعتماد عليه في الحرب ضد "داعش" والتي تعتبر عدوا مشتركا.أن يكون لروسيا دور اقتصادي داخل أفغانستان وقطع الطريق لأي عودة كبيرة للدول الأنغلوساكسونية فيها.وبرأي سلطان "تستفيد روسيا في علاقاتها مع طالبان بتوسيع نفوذها، وبناء علاقات مع نظام يتشكل، يمكن أن توظفه في إطار سياسة التنافس الإستراتيجي مع الولايات المتحدة في الوقت الحالي. بالإضافة إلى التعاون فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب (تنظيم داعش خراسان)، والذي يعد بمثابة قيادة إقليمية تقود أفراد داعش في منطقة وسط آسيا، الأمر الذي توليه موسكو أهمية كبيرة". وبعد هجوم موسكو الذي أودى بحياة العشرات الروس، ستولي موسكو أهمية خاصة إلى مكافحة أي عمل إرهابي داخل حدودها، وخصوصا في ظل انشغالها بالحرب الأوكرانية، والتي قد تؤثر سلبا على زيادة هذه العمليات داخل البلاد، في وقت اتهم فيه عدد من المسؤولين الروس أوكرانيا بدعمها للعملية الإرهابية الأخيرة في كروكوس.وحول ذلك يشرح سلطان أن "الهجوم الذي وقع في كروكوس لم يكن الأول، حيث أحبط جهاز الأمن الروسي هجوما كانت تخطط له خلية أخرى، وكانت هذه الخلية تلقت تعليمات من تنظيم داعش المركزي، وتلقت تعليمات باستهداف مواطنين روس يهود، حتى يسوق داعش لنفسه بأنه يتصدى لليهود، بالتزامن مع حرب غزة، وعندما كشفت هذه الخلية سارع داعش إلى تكليف خلية أخرى لتنفيذ هجوم كروكوس". يشير ذلك إلى خلايا "داعش" داخل روسيا وفي المدن الكبرى، و"إعادة سيناريو كروكوس متوقع، لكن الآن سيهدأ بسبب استنفار القوات الروسية في البلاد"، وفقا لسلطان.في المقابل، ينهي الديب حديثه إلى "المشهد" قائلا: "طالبان بشكل عام لا يمكن الاعتماد عليها، فهي ليست مؤسسة حكم، ولذلك العمل معها بشكل إستراتيجي محكوم عليه بالفشل، أما إذا كان التعامل بشكل تكتيكي فذلك ممكن، لكن هنا يجب الحذر التام لأننا لا نعلم على وجه اليقين مع من تتعامل طالبان بشكل سري أو أشخاص محددين داخلها".(المشهد)