سجلت مناطق الأهوار في جنوب العراق، آلاف حالات الهجرة لعائلات عراقية، أجبرها الجفاف وقلة مصادر المياه على ترك منازلها وأرزاقها وأراضيها، بحثًا عن حياة جديدة عنوانها المياه.وتتألف أهوار العراق من 3 مناطق رئيسية، هور الحويزة المتصل مع الحدود الإيرانية، وهور الحمّار الواقع بين محافظتَي ذي قار والبصرة، وأهوار الفرات الممتدة من مناطق شمال وغرب محافظة البصرة، إلى مصبّ نهرَي دجلة والفرات في الخليج العربي.وفي يوليو 2016، أدرجت لجنة التراث العالميّ في منظمة اليونيسكو، أهوار العراق ضمن لائحة التراث العالمي، وشملت 3 مدن أثرية و4 أهوار في جنوب العراق، وأكدت المنظمة على ضرورة حماية هذه المناطق الأثرية، وإبعاد خطر الجفاف والاندثار عنها.وتمثل أهوار العراق إرثًا حضاريًا يعود لآلاف السنين، بسبب تنوعها الطبيعيّ والحيوي، وما شكلته من مرفق طبيعيّ للسائحين من مختلف البلدان، قبل أن يضربها الجفاف وتختفي مصادر المياه، وتنفق مئات الحيوانات من أراضيها والأسماك من أنهارها. ويصف خبراء، أزمة الجفاف التي تتعرض لها مناطق الأهوار، بالكارثة الطبيعية والإنسانية، حيث تعاني تلك المناطق جفافًا متواصلًا منذ العام 2021، بسبب تراجع كميات المياه الواردة إليها عبر الحدود العراقية مع إيران وتركيا، وانخفاض منسوب نهرَي دجلة والفرات، إضافة إلى تأثير التغيّر المناخي، وقلة الأمطار وتراجع مخزون المياه في السدود العراقية.هجرة السكان الأصليّين وقال معاون محافظ ذي قار المهندس سلامة السرهيد لمنصة "المشهد"، إنّ دائرة هجرة ذي قار سجلت نزوح ما يقارب 7 آلاف عائلة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، هجرت هذه العائلات مناطق الأهوار، واتجهت إلى مناطق الفرات الأوسط (5 محافظات: النجف، كربلاء، الديوانية، بابل، والمثنى)، وذلك لتوافر مصادر مياه أوفر مقارنة مع محافظة ذي قار.وأوضح السرهيد أنّ مناطق الأهوار سجلت نفوق مئات الحيوانات كالجواميس والأبقار، بسبب قلة مصادر المياه، ما أثر بشكل مباشر على أرزاق الناس ودفعهم للنزوح إلى المدن المجاورة، لأنّ أبناء المنطقة يستثمرون هذه المواشي في إنتاج الحليب واللبن والقشطة، وبيعها بأسعار مقبولة، تعود عليهم بالنفع المادي، وتشكل مصدر رزق رئيسيًّا لهم، لكنهم خسروا مصدر رزقهم بنفوق هذه الحيوانات.وكشف السرهيد أنّ الإحصايات تشير إلى أنّ كل عائلة نزحت، خسرت ما بين 50 إلى 100 رأس بقر وجاموس، ما يُعتبر خسارة باهظة، حيث يبلغ سعر رأس الجاموس من 4 إلى 5 ملايين دينار عراقي، ويبلغ سعر رأس البقر من 2 إلى 3 ملايين دينار عراقي، أي أنّ هذه العائلات فقدت مصادر رزقها، وتعرضت مواشيها للهلاك بسبب الجفاف.جفاف نهر الفرات وعن منسوب مياه نهر الفرات، شرح السرهيد: هناك تدنٍّ بين الحين والآخر في مستوى مياه نهر الفرات، تعرّض النهر خلال الأشهر الماضية إلى انخفاض حادّ في مستوى المياه، ما دفعنا للتواصل مع وزارة الموارد المائية، لزيادة حصة محافظة ذي قار الواصلة إلى نهر الفرات.تمت الاستجابة سريعًا، كون أغلب مناطق محافظة ذي قار تعتمد بشكل مباشر على مياه نهر الفرات. وعن مستوى الجفاف حاليًا في الأهوار، قال السرهيد: تعرضت كل مناطق الأهوار للجفاف، حتى أصبح المواطنون يسيرون على الأقدام داخل منتصف الأهوار. لكن سجلنا العام الماضي موجة مطريّة كبيرة أعادت الحياة لهذه المناطق، لتتناقص المياه خلال الصيف الحالي، لكنها تبقى أفضل من الأعوام السابقة.نعوّل على الموجات المطرية المقبلة في الشتاء القادم.وعن الخطة الحكومية لمواجهة نزوج العائلات وتخفيف الجفاف في مناطق الأهوار، أوضح السرهيد، أنّ الحكومة المحلية في الأهوار تتواصل بشكل مستمر مع الحكومة المركزية في بغداد، ومع وزارة الموارد المائية، وتطالب بالضغط على دول المنبع تركيا وإيران، لرفع الإطلاقات المائية الواصلة لمحافظة ذي قار.وعانت شبكة أنهار العراق خلال السنوات الماضية نقصًا حادًا في جداول مياه نهرَي دجلة والفرات، وذلك بسبب السياسات المائية التي لجأت إليها تركيا، ورفعها لأنشطة بناء السدود على النهرين، خصوصًا سد إيليسو (ثاني أكبر سد لتوليد الكهرباء في تركيا، بعد سد أتاتورك على نهر الفرات) الذي بُني في أعلى مجرى نهر دجلة في تركيا، إضافة إلى السدود الأخرى التي بُنيت على روافد النهر.نفوق الثروة السمكية وأدى انخفاض مستوى منسوب نهرَي دجلة والفرات، إلى تدهور جودة المياه وانخفاض مستوى الأكسجين، وهو ما أدى إلى نفوق أعداد وأنواع كثيرة من الأسماك، وتضرر الثروة السمكية، حيث أعلنت وزارة الموارد المائية العراقية في العام 2023، عن تخفيف297 بحيرة أسماك لمواجهة شحّ المياه.وخلال زيارة الرئيس التركيّ رجب طيب إردوغان بغداد منتصف إبريل الماضي، وقّع العراق اتفاقية لإدارة الموارد المائية مع أنقرة مدتها 10 سنوات، بهدف حصول العراق على حصة عادلة من مياه نهرَي دجلة والفرات، اللذين ينبعان من تركيا ويمران في العراق، وتضمنت الإتفاقية وعودًا تركية برفع مستوى الإطلاقات المائية من النهرين إلى العراق.وتقول عضو مجلس محافظة ذي قار هدية الخيكان لـ"المشهد"، إنّ من الأسباب التي أدت إلى جفاف الأهوار، إضافة إلى الأسباب السياسية، الاعتماد على الطرق التقليدية القديمة في الزراعة، والاستمرار بالزراعة غير المنتظمة، التي أدت إلى هدر كميات كبيرة من الموارد المائية، من دون وجود خطة لتحديد الكميات المائية المطلوبة للزراعة.وأوضحت الخيكان، أنّ تناقص كميات المياه في مناطق الأهوار حدث بشكل مفاجئ وليس بشكل تدريجي، وتغيّرت معالم الأهوار فجأة من مناطق مغمورة بالمياه إلى مناطق جافة تمامًا، متصحّرة لا وجود لبقعة مائية إلّا ما ندر.وأضافت الخيكان، أنّ الحكومة المحلية في منطقة الأهوار، تحاول مواجهة الجفاف، لكن لا يوجد رؤية بعيدة الأمد حتى الآن، كالاستفادة من مياه الأمطار في الشتاء وخزنها في السدود، واستثمارها لاحقًا، فالخطط المستقبلية غير متوافرة.وخلال الصيف الحالي 2024، سجلت 11 مدينة ومنطقة عراقية نصف درجة الغليان، ودخلت ضمن المناطق الأعلى في معدلات درجات الحرارة على مستوى العالم، بحسب نشرة محطة بلاسيرفيل في كاليفورنيا الأميركية، بينما وصفت الأمم المتحدة التغير المناخي، بأنه أكبر تهديد يواجه العراق على الإطلاق.أزمة إنسانية وقال مدير مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في ذي قار، داخل المشرفاوي لـ"المشهد"، إنّ مشكلة الجفاف في الأهوار، من المشكلات المقلقة في ما يخص حقوق الإنسان، ولا شك أنها أثرت بشكل مباشر على حياة العراقيّين، باعتبار أنّ الأهوار جزء من موروثهم الحضاريّ ابتداءً من الحضارة السومرية وحتى الآن.وأوضح المشرفاوي أنّ مناطق الأهوار كانت وما زالت لوقت قريب، أماكن لعيش مجموعة كبيرة من السكان الأصليّين في مدن الجنوب، وأيضًا لممارسة نشاطاتهم الطبيعية من الزراعة والصيد وتربية المواشي وخصوصًا الجاموس، وتجفيف الأهوار أثر سلبًا على حياتهم، حيث فقدوا أهم مصدر لمعيشتهم وهو الأسماك والحيوانات.وأكد المشرفاوي أنه قبل عامين أي في العام 2022، غادرت مناطق الأهوار 4 آلاف عائلة عراقية، بحسب إحصائيات دائرة الهجرة والمهجرين، هذه الأعداد الكبيرة من العائلات التي هاجرت بالتأكيد غيّرت عاداتها ومهنها في مدنها الجديدة، وجعلت الأهوار شبه خالية من سكانها، هنا تظهر خطورة الجفاف على التغير الديمغرافيّ والبيئيّ والإنسانيّ في منطقة الأهوار.ويرى المشرفاوي أنّ تخفيف الجفاف في مناطق الأهوار والحدّ من نزوح الأهالي، يحتاج إلى جهد حكوميّ ودوليّ على السواء، كونها أزمة إنسانية حقيقة، سواء كان عن طريق المخاطبات الحكومية أو عن طريق مخاطبة المحافظات الأخرى، لإرسال الماء إلى مدن الأهوار، لكنّ كل هذه الجهود لم تساهم إلا بنسبة 5% من تخفيف الجفاف، بينما 95% من مناطق الأهوار شبه جافة. ويرى خبراء أنّ مناطق الأهوار العراقية، بدأت تفقد قيمتها البيئية والاقتصادية مع فقدانها للمياه، كما أنها بدأت تفقد هويتها الوطنية بهجرة سكانها، في ظل غياب الخطط الحكومية البعيدة المدى، أو الاستثمارات الحقيقية لمواجهة الجفاف والمخاطر التي تعيشها تلك المناطق. (المشهد)