للمرة الثانية منذ هروب الأسد، حاولت قافلة عسكرية مكونة من عشرات المركبات التابعة لـ"هيئة تحرير الشام" دخول محافظة السويداء، لكنها قوبلت بمقاومة من الفصائل الدرزية المحلية. طالبت مجموعة "رجال الكرامة" الدرزية، التي تم إنشاؤها لحماية المجتمع الدرزي من تهديدات تنظيم "داعش" وتجاوزات قوات النظام السابق، القافلة بالعودة إلى دمشق.بالتزامن يواصل أبناء محافظة السويداء، جنوب سوريا، نشاطهم الاحتجاجي المعروف باسم "الحراك"، الذي بدأ في أغسطس 2023 كرد فعل على ارتفاع أسعار الوقود ليتطوّر إلى دعوات للإصلاح السياسي والإفراج عن المعتقلين السياسيين وصولاً إلى إسقاط النظام، حيث بات يركّز اليوم على تشكيل الحكم المستقبلي في المحافظة والمشهد الوطني بشكل أوسع.لا لتسليم السلاح الدرزي ويصرّ المجتمع الدرزي على الاحتفاظ بسيطرته على مناطق تواجده، حيث أكّد الشيخ حكمت الهجري، الزعيم الروحي للطائفة الدرزية، أن المجتمع لن يتخلى عن سلاحه حتى يتم إنشاء هيكل دولة شرعي يتضمن دستوراً يضمن حقوقهم. عبّر الدروز عن رغبتهم القوية في نظام حكم لا مركزي، يكون أكثر ملائمة لاحتياجات سوريا المتنوعة من الناحية العرقية والدينية. ورغم تأكيد الجولاني على حماية حقوق جميع المجتمعات، تظل هناك شكوك بين الدروز والأقليات الأخرى حول مصداقية هذه الوعود، في ظل الانتقادات المستمرة بسبب أسلوب الجولاني في الحكم وتصريحات وقرارات مسؤوليه في الآونة الأخيرة.لقاء وليد جنبلاط في أول زيارة له بعد سقوط الأسد، قام الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط بلقاء الشرع في دمشق في خطوة تحمل وزناً سياسياً، وفي الوقت ذاته تتجاوز الدوافع الشخصية من خلال السعي لمعالجة مخاوف المجتمع الدرزي واستكشاف فرص الحوار مع القيادة السورية الجديدة. ويشرح شيخ عقل طائفة المسلمين الموحدين الدروز في سوريا يوسف جربوع في حديثه إلى منصّة "المشهد" دوافع وخلفيات موقف تمسّك الدروز بالسلاح مؤكّداً وجود "مخاوف لدى الدروز تعود إلى التجربة السيئة مع هيئة تحرير الشام وجبهة النصرة في إدلب وعمليات القتل التي تعرّض لها الدروز في المنطقة". ويقول الشيخ جربوع "صحيح أن إدارة الأمر الواقع في دمشق تتحدّث اليوم بلغة مختلفة، ونحن علينا الأخذ بالظاهر دون الخوض في النيّات، لكن في ظل الفراغ الدستوري والسلطوي الذي تعاني منه البلاد اليوم، من المبكر الحديث عن حتمية تسليم السلاح". ويضيف الشيخ جربوع "نأمل أن يتم التوصّل بسرعة إلى حكومة مركزية قوية قادرة على تحقيق تطلّعات جميع مكوّنات الشعب السوري، لأنها الضمانة الأمنية والإدارية والمجتمعية لجميع السوريين. أملنا أن يكون الظاهر اليوم انعكاساً للباطن لدى السيد الشرع".اللامركزية وموقف دمشق تظل الأوضاع في السويداء وسوريا بشكل عام معقدة ومتغيرة، وتسلّط مقاومة المجتمع الدرزي لتقدم "هيئة تحرير الشام"، والدعوات المستمرة للامركزية، وانعكاسات مفاوضات قوات سوريا الديمقراطية مع الحكومة السورية الضوء على الشبكة المعقدة من العلاقات والطموحات في سوريا ما بعد الأسد. بعد سقوط نظام الأسد، اتّخذ حراك السويداء خطوات لإنشاء هياكل حكم جديدة، بما في ذلك تشكيل لجان سياسية وإعلامية وقانونية بالتوازي مع عمل النشطاء على حماية المؤسسات الحكومية وتوفير الخدمات الأساسية للمجتمع. وأثار وجود الحكومة الانتقالية بقيادة "هيئة تحرير الشام" مخاوف بين المجتمع الدرزي بشأن تاريخ الهيئة العنيف وإمكانية فرض حكم ديني وسط خشية فئة واسعة من السكان فرض سلطة من لون واحد وإقصاء التمثيل في الحكم.مستقبل السويداء يعبّر أحد النشطاء الدروز عن قلقه من دور الدين في المشهد السياسي الجديد، مؤكّداً على أهمّية فصل الدين عن الحكم لتجنب استبداد جديد، وعلى الرغم من الخلافات الداخلية، تتوحد حركة السويداء حول قناعة بأن مستقبل السويداء مرتبط بمستقبل سوريا ككل. يقول الناشط، مشترطاً عدم الكشف عن اسمه، كونه من سكّان دمشق المدينة، في حديثه إلى منصّة "المشهد": "هناك رفض للانفصال"، ويؤكد قادة الحراك على أن مستقبل السويداء هو أن تكون جزءاً من سوريا الأم، وهذا يعكس رغبة أوسع في حكم شامل يمثل جميع فئات الشعب.يتشكّل المجتمع السوري من هويات وطنية مختلفة، تمثّل فيه السنة النسبة الأكبر إلى جانب العلويين، والمسيحيين العرب، والدروز، والأكراد، والأرمن، والإسماعيليين، والشيعة العرب وغيرهم، من الذين تم الاعتراف بهم خلال العهد العثماني، مما أسس للطبيعة التعددية للمجتمع السوري. وعندما سيطرت فرنسا على سوريا بعد الحرب العالمية الأولى، حاولت استيعاب هذه الهويات المتنوعة من خلال إنشاء دول منفصلة للعلويين في الشمال الغربي والدروز في الجنوب الشرقي، لكن هذا المخطط فشل وانتهى باستقلال سوريا عام 1946، وتأسيس حكومة يهيمن عليها العرب السنة تحت قيادة الرئيس شكري القوتلي، قبل وصول حافظ الأسد، إلى السلطة واعتماده ديكتاتورية عسكرية قائمة بشكل كبير على العلويين للحفاظ على السيطرة على المؤسسات العسكرية بشكل خاص. يقترح البعض نظاماً فدرالياً كالمعمتد في سويسرا مثلاً، التي نجحت في استيعاب المجموعات العرقية واللغوية والدينية المتنوعة من خلال نظام حكم كونفدرالي، حيث يمتلك كل كانتون في سويسرا حكومته ودستوره الخاص، مما يسمح بالحكم الذاتي والتمثيل المحلي. يجادل كثيرون أن النهج الكونفدرالي يمكن أن يعالج الهويات والاحتياجات الفريدة لمختلف السكان في سوريا ويعزز التعايش السلمي. وفي ظل تزايد عدم اليقين بشأن مستقبلهم، بدأ البعض يتحدّث بصوت عال عن دعمه لضم المحافظة إلى إسرائيل، مما يعكس مخاوف عميقة بشأن الأمن والتمثيل السياسي في مشهد سياسي سريع التغير. في المقابل يرى الشيخ جربوع بأن "ضمانة السويداء في وجود حكم مركزي قوي، مع صلاحيات في نظام إداري يمكن لقانون الإدارة المحلية بعد توسيعه تأمينها، أما حديث البعض عن الفيدرالية فهو مبالغ فيه، وأثبت هذا النظام تاريخياً فشله في سوريا. لا غنى عن التمسّك بمركزية الحكم في دمشق مع صلاحيات إدارية واسعة في الأطراف". قبل أيام، وخلال لقاء تلفزيوني، أعلن القائد الفعلي الجديد لسوريا، أحمد الشرع، أن إجراء الانتخابات قد يستغرق 4سنوات، مشدداً على ضرورة إجراء تعداد سكاني شامل لتحديد عدد الناخبين المؤهلين قبل أي انتخابات، فميا أشار إلى أن صياغة دستور جديد قد تستغرق حوالي ثلاث سنوات. من جانبه، يشير الناشط إلى أن "أهالي السويداء يراقبون أفعال الحكومة الجديدة. يؤكدون أنهم لن يقبلوا أي نظام لا يشمل المشاركة الشعبية أو لا يخضع لعملية ديمقراطية، بما في ذلك دستور جديد واستفتاء شعبي".مخاوف الأقلّيات تتصاعد أثارت الولايات المتحدة قلقها بشأن تقارير عن أعمال انتقامية عنيفة ضد الأقليات، وخصوصا العلويين والأكراد والدروز، من قبل فصائل مسلحة مرتبطة بالإدارة الجديدة. تهدد هذه الهجمات بزعزعة استقرار الوضع الهش بالفعل في سوريا ويمكن أن تؤدي إلى مزيد من الصراع. يقول الناشط الدرزي "توجد تناقضات في سرد الجولاني، خصوصاً في ظل فيديوهات أعمال العنف ضد العلويين وبعض الحوادث في المناطق المسيحية وهي تثير تساؤلات حول نوايا الهيئة الحقيقية. لم نخرج إلى الساحات للتخلص من ديكتاتور عسكري واستبداله بآخر ديني". رغم المطالبات الدولية بضمان أن تكون الحكومة السورية الجديدة شاملة وتستجيب لجميع الفئات العرقية، إلا أن الشرع في تعييناته الأخيرة داخل الحكومة الانتقالية فضّل حلفاءه من "هيئة تحرير الشام"، مما أثار تساؤلات حول التزام حكومته بالشمولية. في الوقت ذاته لا يخفي الدروز كما غيرهم قلقهم الكبير من احتمال تحويل "هيئة تحرير الشام" سوريا إلى دولة دينية متطرفة، على غرار أفغانستان في ظل طالبان، متمسّكين بخيار الديمقراطية العلمانية، مشككين في نجاح شعارات خلق بيئة ديمقراطية، بالنظر إلى الجمود الأيديولوجي لدى فئة واسعة من قادة الإدارة الفعلية في البلاد. (المشهد)