في مبادرة أوروبية جديدة تجاه دمشق، اجتمع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع مع عدد من القادة الأوروبيين والعرب في قمة افتراضية خماسية بقيادة فرنسا، كسرت جزئياً جدار العزلة حول سوريا ومنحت للشرع دفعاً دبلوماسياً، خصوصاً بعد التقارير التي تحدّثت عن ضغوط أوروبية على دمشق على خلفية المجازر التي شهدتها القرى والبلدات العلوية في الساحل السوري.اللقاء، الذي جاء بمبادرة من الرئيس الفرنسي ماكرون، ناقش ملفات شائكة مثل الأمن الإقليمي والأزمة السورية، في ظل الأسئلة الكثيرة حول طريقة تعاطي أوروبا مع الملف السوري بعد سقوط الأسد. ترقب دمشق عن قرب مدى استعداد الغرب لتخفيف العقوبات وفسح الطريق أمام اندماج النظام السوري الجديد في المجتمع الدولي، خصوصاً بعد تأكيد الشرع على المضي قدماً في "الإصلاحات" الموعودة والمشروطة، مقابل مخاوف غربية حيال "الانتهاكات" المتواصلة في سوريا ومسألة المقاتلين الأجانب.قمة فرنسية بمشاركة الشرع خلال القمة، وضع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شروطاً واضحة لاستئناف العلاقات مع سوريا، معلنا استعداد باريس لاستقبال الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، لكن بشروط 3 أساسية: أولاً: ضرورة إشراك كافة مكونات المجتمع المدني السوري في العملية السياسية، وهو البند المشترك بين مطالب كل الجهات الغربية.ثانياً: التزام واضح وحازم بمكافحة الإرهاب.ثالثاً: ضمان عودة آمنة وكريمة للاجئين السوريين.وأكد ماكرون أن "هذه العناصر الثلاثة تشكل أساساً للحكم على نجاح المرحلة الانتقالية"، معتبراً أن "المباحثات التي أجريناها حتى الآن إيجابية بالكامل". لكنه شدد على أن "الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة للتأكد من جدية هذه الخطوات". ويرى مراقبون سياسيون في هذه الخطوة محاولة فرنسية لقيادة مسار أوروبي موحد تجاه سوريا، خصوصا في ظل التحديات الأمنية المتصاعدة في المنطقة، والأزمات الإنسانية المتفاقمة التي تسببت بها سنوات الحرب الطويلة، مع التشكيك في إمكانية تحقيق هذه الشروط على الأرض، في ظل استمرار الانقسامات السياسية العميقة، وتشعّب الملفات العالقة بين دمشق والمجتمع الدولي. وتقول الصحفية والكاتبة التركية المختصة في شؤون الشرق الأوسط هدية ليفينت إن "الملف الإيراني محور دائم في المناقشات مع دمشق، حيث تؤكد الدول الغربية على ضرورة بقاء إيران بعيدة عن الحدود العراقية - السورية، ومنعها من تعزيز نفوذها في المنطقة. في حين أبدت فرنسا تحفظات واضحة على عودة روسيا القوية إلى الساحة السورية، خاصة في ظل سيطرة موسكو السابقة على أجزاء من شرق المتوسط عبر قاعدة حميميم". وتبدو الدول الأوربية في مقدّمة المعنيين بحل قضية اللاجئين، حيث كانت سوريا طوال السنوات الماضية على رأس قائمة الدول المصدّرة لهم، وهو الملف الشائك المشترك بين الدول المشاركة في القمة. تعتبر اليونان البوابة البرّية للاجئين السوريين إلى أوروبا عبر تركيا، وقد تعرّضت لابتزاز أنقرة في الملف المذكور لسنوات طويلة. أما بالنسبة إلى قبرص فتعتبر المحطة البحرية الأهم على طريق قوافل اللجوء، إلى جانب لبنان الذي يعاني من ازدياد عدد اللاجئين السوريين في ظل اقتصاده الهش، إلى جانب اعتباره محطة للإبحار نحو السواحل القبرصية. وتؤكد ليفينت على أهمية ملف اللاجئين بالنسبة لأووربا، والذي يفسّر حماس دولها للانفتاح السريع على دمشق، مقابل كونها ورقة قوية بيد الشرع، خصوصاً لناحية المطالبة برفع العقوبات التي تعيق أي تحسّن للظروف المعيشية في البلاد.شرق المتوسط على طاولة الشرع وماكرون تشير مشاركة الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس في القمة الفرنسية إلى أن ملف "غاز شرق المتوسط" كان على أجندة النقاش، خصوصا في ظل الخلافات الإقليمية المستمرة حول ترسيم الحدود البحرية وحقوق التنقيب في البحر، وهو الملف العالق بين قبرص واليونان في ظل مفاوضات صعبة مع تركيا، التي تحاول ابرام اتّفاق مع الحكومة السورية شبيهة بالموقّعة مع ليبيا، كورقة لضغط إضافية على جارتيها. تمتلك سوريا حدوداً مائية متداخلة مع المناطق المتنازع عليها، والتي تحتوي على احتياطات كبيرة من الغاز، في ظل البحث الأوروبي المتواصل عن بدائل للطاقة بعد الأزمة الأوكرانية. خلال فترة الأزمات السياسية نجحت كل من اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر في إقصاء أنقرة من منتدى غاز شرق المتوسط، في ضربة قوية للطموحات التركية التي أطّرتها ضمن ما عرف "بالوطن الأزرق". لكن وجود حليف عضوي في دمشق اليوم يعيد لتركيا ما خسرته ضمن خارطة التحالفات المتوسّطية، حيث تشير ليفينت إلى أن "سوريا تكتسب أهمية إستراتيجية في ملف شرق المتوسط بسبب حدودها البحرية الممتدة حتى قبرص، مما قد يضعها في قلب أي تسوية مستقبلية، لكن أي حل في هذا الملف لن يتم دون مراعاة المصالح التركية، خاصة في ظل التحول الدبلوماسي الذي تقوده أنقرة مؤخراً". وبرأي ليفينت فإن دمشق تعي حاجتها الملحة إلى الدعم التركي في مجالات عدة أبرزها: إعادة تأهيل الجيش السوري.السيطرة على الجماعات المسلحة.موازنة النفوذ الإيراني والروسي.تعزيز الشرعية الإقليمية والدولية."لذلك فهي لن تتخذ أي خطوة في الملفات الحساسة، كغاز شرق المتوسط، دون رضى كامل من تركيا، وهذا الموضوع لا يتعلّق برغبة الشرع من عدمه، بل إن الظروف الجيوسياسية تفرض ذلك على دمشق". وفق ليفينت.ويرى أستاذ العلاقات الدولية عبد المسيح الشامي في حديثه إلى "المشهد" أن "دعوة القبارصة ربما لها علاقة أولاً بمحاولة حل قضية الخلافات القائمة بينها وبين تركيا بشراكة ووساطة مع السوريين". يقول الشامي "لطالما حاولت فرنسا أن تلعب دورا أساسيا في موضوع الخلاف الذي يشمل ملفات النفط والغاز البحري وترسيم الحدود، وسوريا جزء من قضية ترسيم الحدود بين تركيا وقبرص، وهي تقع في الوسط بين هذين البلدين وبالتالي لسوريا دور أساسي وكون أن هناك علاقات قوية اليوم بين النظام الحالي وتركيا ربما تراهن فرنسا أيضاً خلال هذه القمة على كسر الجليد وإدخال عامل إضافي لفتح صفحة جديدة مع تركيا"، مضيفاً "لبنان أيضا جزء من هذا الملف".إحياء دور فرنسا في دمشقفي ظل اتّساع التباينات بين واشنطن والاتّحاد الأوروبي في معظم القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية، فإن خطوة فرنسا لا يمكن قراءتها خارج إطار المحاولات الأوربية عموماً وباريس على وجه الخصوص لإعادة إحياء دورها واسترجاع ثقلها السياسي في المنطقة من بوابتي سوريا ولبنان. لطالما كانت فرنسا حاضرة في الأزمات السياسية الكبرى في لبنان، مستندة إلى الإرث التاريخي الممتد منذ أيام الانتداب على الدولتين الجارتين، وهي التي حاولت تمييز مواقفها عن العديد من الدول الأوربية في القضايا الأساسية ومن بينها حرب غزّة والمجازر المرتكبة بحق الفلسطينيين.في هذا السياق، يقول الباحث الجيوسساسي الفرنسي فابريس بالانش في حديثه إلى "المشهد" إن "سياسات الشرع حيال لبنان تشبه إلى حد كبير سياسات الأسد القائمة على محاولة الهيمنة، لذا فإن ماكرون أراد التأكيد عاى دعمه للبنان ومعارضته لهذه السياسات". مضيفا "فرنسا تدفع باتجاه ضبط دمشق للحدود مع لبنان ومنع انتقال الجهاديين من سوريا، ومنه عمليات التسلل والتهريب، وضرورة ترسيم الحدود بين البلدين". ويشرح بالانش الباحث الزائر في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى "طرابلس اللبنانية معروفة بتوجهاتها الإسلامية المتشددة، لذلك فإن فرنسا ترغب في التأكد من عدم محاولة السلطة السورية الجديدة بتحريضهم ضد "حزب الله"، ما قد يغرق لبنان في دوامة فوضى، وهذا ملف آخر من المحادثات التي ركزت أيضا على مسألة اللاجئين".بدوره، يقول الشامي، وهو منسق العلاقات العربية - الأوربية في البرلمان الألماني في حديثه إلى "المشهد" إن "فرنسا تريد أن تحجز لنفسها مكانا مهما في السياسات التي ترسم في المنطقة وخصوصا فيما يتعلق بالملف السوري، وتريد أن تنسج علاقات قوية مع دمشق. تأتي كل هذه الأمور أيضا في سياق السباق المحتدم على زعامة أوروبا وعلى الحضور العالمي بشكل أو بآخر بين فرنسا وبين ألمانيا". ويُضيف "الملف السوري هو ملف أساسي في المنطقة وهو اليوم محوري حول إعادة رسم خريطة المنطقة بشكل أو بآخر، وفرنسا تعتبر نفسها جزء من الدول التي لها تأثير في منطقة الشرق الأوسط خصوصا سوريا ولبنان".(المشهد)