لا يمكن الحديث عن دمشق وشهر رمضان من دون المرور بسوق الجزماتية، مقصد الدمشقيّين وزائري العاصمة من العرب، وحتى بعض الأجانب، والذي يُعتبر مطبخًا في الهواء الطّلق للأطعمة والحلويات الدمشقية القديمة منها والحديثة.على طول 3 كيلومترات تقريبًا، تصطفّ المحالّ التجارية ذات التصاميم التي يغلب عليها الطابع الشرقيّ الإسلاميّ والأمويّ على جانبَي السوق، كلّ يختصّ بنوع معيّن من الأطعمة والحلويات، ليصبح بذلك السوق الشامل لكلّ ما يخصّ التذوّق.بملابسهم البيضاء، يقف أصحاب المحال أمام دكاكينهم، ليتنافسوا في ما بينهم على طرق عرض منتجاتهم بأشكال فنية على واجهات المحالّ، لجذب المارة، مضيئين محلّاتهم بالأضواء الساطعة، والزينة المتوافقة مع كلّ مناسبة.ففي رأس السنة الميلادية، تنير أضواء أشجار الميلاد الملوّنة الشارع ليلًا، فيما يحتضن السوق شهر رمضان المبارك ببهجة، لتضفي أنوار الفوانيس والأهلّة على الشارع، طابعًا مميّزا، برفقة الأغاني الدينية والشعبية التي تملأ الأجواء المزدحمة صخبًا.في الأيام الرمضانية تختلف "معروضات" السوق وتنقسم إلى فترتين.قبل موعد الإفطار تملأ مشروبات مثل السوس والتّمر الهنديّ والجلّاب وكعك المعروك، وخبز الناعم (نوع من الخبز المقرمش المقلّي على سطحه دبس التمر) واجهات المحال، وتمتلئ الأجواء بصرخات البائعين وهم ينادون على هذه الأطعمة بكلمات شعرية متناغمة، فيما تنقلب الأجواء بعد الإفطار، لتكون أقرب إلى التسوّق الترفيهيّ وقضاء الوقت مشيًا، بالإضافة إلى لوازم الاستعداد لحلول العيد.قصة السوق للوهلة الأولى يتناقض مضمون السوق واحتضانه لمحالّ الأطعمة والحلويات مع تسميته، التي اكتسبها من المهنة السائدة فيه، حين تم إنشاؤه كمركز لتصنيع "الجزمات" الأحذية، قبل أن يتحوّل مع مرور السنوات تدريجيًا إلى أكبر مركز لبيع المأكولات.ويروي المؤرخ الدمشقي، ابن حيّ الميدان ومؤلف كتاب "حيّ الميدان الدمشقيّ.. تاريخه وتطوّره"، أحمد بوبس في حديث إلى منصة "المشهد"، أنّ "الجزماتية هي جزء من حيّ الميدان الدمشقيّ ومحالّ الحلويات والأطعمة الحديثة، لا يزيد عمرها عن 50 عامًا، تطور عبر الزمن من بيع الجزمات والأحذية إلى بيع الحبوب، حيث كانت تحتوي المنطقة مخازن الحبوب بأنواعها، وتسمى عاميًا بوايكية، كما سمعناها في المسلسلات الشامية".ونظرًا لأنّ تجّار الحيّ كانوا يستوردون الحبوب من منطقة حوران في درعا، وأُطلق على الحيّ سابقًا "دهليز حوران".ووفقًا لبوبس، فإنّ "السوق يضم معلمًا أثريًا وهو جامع منجك المملوكي، الذي أقيم على أنقاض جامع صغير متواضع، قبل أن يأمر الأمير المملوكيّ إبراهيم بن منجك، بإعادة بنائه عام 1361".ويقول بوبس، إنه "على الرغم من أنّ قاطني المنطقة الآن هم من المسلمين بصورة عامة، إلّا أنه يوجد فيها كنائس تعود إلى القرن 19، أبرزها كنيسة القدّيس حنانيا الأرثوذكسية التي بُنيت عام 1815، على طراز البيوت الدمشقية القديمة، وتُعتبر ثاني أقدم كنيسة أرثوذكسية في دمشق، بعد الكنيسة المريمية في باب شرقي، وأيضًا كنيسة القديس جاروجيوس، التي يعود تاريخ بنائها إلى عام 1836، في فترة حكم إبراهيم باشا لسوريا".لكنّ الجدير ذكره أنّ هذه الكنائس لا تعمل اليوم، وتُعتبر فقط أماكن أثرية.الأزمة المعيشية والسوق رغم الضائقة المعيشية الخانقة، وغلاء أسعار المأكولات بشكل عام والحلويات خصوصًا، إلّا أنّ سوق الجزماتية لا يخسر ازدحامه حتى وإن تراجعت حركة البيع فيه، فليس شرطًا أن تكون مشتريًا للتّجوال فيه، والحصول على "الضيافة" من بائعي الحلويات، لتذوّق منتجاتهم بمجرد سؤالك عن أيّ نوع من الحلويات.ويُعرف شاغلو الحي، الذين تعود أصولهم بحسب المؤرخ بوبس، إلى مناطق عديدة من سوريا، جاؤوا لدمشق بغية العمل، حتى أصبحوا دمشقيّين مع مرور السنين، بالكرم والسخاء.مشاهد الحلويات المصفوفة والمرصوصة إلى جانب بعضها البعض، تخطف القلوب وتُشبع النّظر قبل المعدة، أنواع وأشكال لا حصر لها، أبرزها الكنافة المبرومة، وعشّ البلبل، والبقلاوة، والوربات بالفستق الحلبي، وزنود الست، والكثير الكثير من الأسماء التي تختلف في مذاقها رغم التشابه في الكثير من مكوّناتها.ويروي الحاج أبو علي صاحب أحد المحالّ التجارية لـ"المشهد"، أنّ بعض المحالّ عملت على استبدال عدد من المكونات الأساسية أو حتى إلغائها، لتتناسب مع القدرة الشرائية للسوريّين، فعلى سبيل المثال بعض المحالّ قامت باستبدال الفستق الحلبيّ بالفستق السوداني، والسمن العربيّ بأنواع أخرى أقل كلفة.وأضاف أنّ "ارتفاع سعر الزيت والسكر انعكس على أسعار الحلويات التي كانت بالأساس مرتفعة، خصوصًا أنّ هاتين المادّتين تُعتبران أساسيّتين في صناعة جميع أنواع الحلويات، وبالتالي انخفضت المبيعات لدينا بنسبة 50 % تقريبًا، لكنّ ذلك لا يؤثر على حركة السوق وازدحامه، فالكثير من الناس يأتون فقط من أجل رؤية السوق والتقاط الصور".هذا ويلجأ بعض روّاد السوق إلى شراء الحلويات بالقطعة بدلًا من الوزن، ما دفع بأصحاب المحال مؤخرًا إلى إنتاج قطع صغيرة تناسب طلب المارّة وقدرتهم الشرائية.هاشتاغ الجزماتية اكتسب السوق شهرة مضاعفة بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصًا في السنوات الـ10 الأخيرة، حيث أصبح السوق مقصدًا لنشطاء السوشيال ميديا، لالتقاط الصور ونشرها على صفحاتهم مرفقة بوسم #الجزماتية. الانتشار الكبير للوسم، قاد أصحاب المحالّ في السوق إلى استغلال التأثير الكبير للسوشال ميديا، للتّرويج لحلوياتهم عبر تطبيقات مختلفة، حتى غدا للعديد من المحالّ الشعبية حسابات على منصّات التواصل الاجتماعي، خصوصًا "فيسبوك" و"إنستغرام" الأكثر استخدامًا من قبل السوريّين، للإعلام عن عروضهم الدورية وخصوماتهم، جذبًا للزبائن.يمكن القول إنّ منصّات السوشال ميديا، ساهمت في تغيير طبيعة السوق اجتماعيًا وثقافيًا، حيث بات يشهد إقبالًا لمواطنين من طبقات مادية وخلفيات ثقافية مختلفة، بعد أن كان مقتصرًا في السابق على فئة المحافظين فقط. (المشهد)