تُمثّل زيارة رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام، التي يُفترض أنها "تاريخية"، إلى دمشق مفترق طرق لإحياء العلاقات اللبنانية السورية التي كانت متوترة لعقود.في لقائه بالرئيس السوري أحمد الشرع، أمس الاثنين، أشرف سلام على مناقشات حول أمن الحدود وعودة اللاجئين السوريين وملف المفقودين اللبنانيين وترسيم الحدود البرية.وأكد سلام النوايا المتبادلة لتعزيز التعاون بعد انهيار نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024. وتُعدّ هذه الزيارة أعلى مستوى لوفد لبناني إلى سوريا منذ تشكيل الحكومة الجديدة في بيروت في فبراير الماضي، وتأتي متابعة لاتفاق بشأن الحدود تم التوصل إليه بالإجماع بوساطة سعودية في 28 مارس، بهدف ضبط التهريب وترسيم الحدود المشتركة. ويُعدّ التزام سلام "بفتح صفحة جديدة" قائمة على الاحترام المتبادل، دليلًا على تغيير دبلوماسي عملي في ظلّ الفوضى الاقتصادية وعدم الاستقرار الإقليمي. تقارب دائم ومن هنا، يرى المحلل السياسي السوري غسان يوسف أن التقارب الأخير بين سوريا ولبنان يحمل طابعًا دائمًا، وليس مجرد لقاء عابر أو مصالح آنية، لأنه ينطلق من واقع فرضته مجموعة معقدة من الملفات الخلافية التي لا يمكن تجاوزها بسهولة. وأضاف يوسف في تصريحات لمنصة "المشهد": "إن العلاقة بين البلدين لا تخلو من التحديات، بدءًا من ترسيم الحدود البرية والبحرية، وصولًا إلى أزمة اللاجئين ووضع المعتقلين في سجون البلدين، وملف أنشطة التهريب المسموح بها عبر المعابر غير الشرعية". وأشار إلى أن هذه المعابر لم تعد مجرد معابر عبور، بل أصبحت ساحات لعب للعناصر الخارجة عن القانون والميليشيات غير الخاضعة لسيطرة الدولة، مما يجعل ضبط الحدود مهمة بالغة التعقيد تتطلب تنسيقًا أمنيًا دقيقًا بين الجانبين. وتابع: "على الرغم من صعوبة حلّ هذه الملفات دفعة واحدة، إلا أن شعبي سوريا ولبنان ما يزالان يتمسكان بأمل التوصل إلى حل دائم يحقق الاستقرار ويخدم مصالحهما". ووفقًا ليوسف، تُعدّ زيارة رئيس الوزراء نواف سلام إلى سوريا بادرة مهمة لإصلاح العلاقات، وربما تكون بداية مرحلة جديدة من الحوار المثمر. تعقيدات وتدخلات أجنبية لكن هذا التقارب لا يرضي جميع الأطراف، بحسب يوسف الذي أصرّ على أن البعض يرى في استقرار العلاقات اللبنانية السورية تهديدًا لمصالحه، سواء أكانوا جهات دولية كإسرائيل، التي سعت دائمًا إلى إبقاء البلدين في حالة توتر، أو جهات إقليمية ترغب في إدامة الفوضى على الحدود، مما يضمن حرية تهريب الأسلحة الخفيفة والمواد المحظورة. وعلاوة على ذلك، أكد يوسف أن المناطق الحدودية بين لبنان وسوريا تعاني من حالة مزمنة من انعدام القانون، مما يجعلها أرضًا خصبة للأنشطة غير المشروعة، وأشهرها الاتجار بالمخدرات. ووفقًا ليوسف، لا تتوقف هذه المشكلة عند حدود البلدين، بل تمتدُّ إلى الأردن ودول الخليج، مما يجعلها أزمة إقليمية بالغة الأهمية.دوافع التقارب بعد أعوام من الخلافات، يشهد لبنان وسوريا تقاربًا جديدًا يحمل في طياته آمالًا باستقرار أعمق. وقال الكاتب والباحث السياسي اللبناني كلوفيس شويفاتي إنه في الماضي، كان نظام الأسد، يمتلك نفوذًا واسعًا في لبنان، حيث سيطر على مفاصل الدولة وقراراتها السياسية عبر متعاونين محليين وقوى سياسية معتمدة عليه للوصول إلى السلطة. وأضاف شويفاتي في حديثه لمنصة "المشهد" أن هذا النفوذ مكّن النظام السوري السابق من الضغط على لبنان لتحقيق مصالحه. وتابع "لكن اليوم، مع سقوط النظام (الأسد) وصعود سلطة جديدة في دمشق، فإن المعادلة تتغيّر. السلطات السورية الحالية تبدو أكثر تركيزًا على شؤونها الداخلية، بعيدًا عن الأطماع الإقليمية التي ميّزت العهد السابق". أبعاد سياسية وإقليمية واعتبر شويفاتي أن هذا التقارب بين بيروت ودمشق لم يأتِ من فراغ، بل تزامن مع تحولات كبيرة في المنطقة. وقال إنه في لبنان، كان "حزب الله" مهيمنًا على المشهد السياسي بنفوذ شبيه بما كان يتمتع به النظام السوري سابقًا، مستخدمًا فائض القوة لفرض قراراته. وأضاف شويفاتي أن الضربات التي تلقاها الحزب مؤخرا، إلى جانب تراجع نفوذ إيران في المنطقة، فتحت المجال أمام تقارب جديد، كون النظام السوري الجديد، الذي لا يرتبط بإيران وشارك في الحد من نفوذ "حزب الله" داخل سوريا، يجد نفسه اليوم أقرب إلى القوى اللبنانية التي طالما عارضت هيمنة الحزب على الدولة. وعلى الصعيد الإقليمي، يبدو أن تراجع الأذرع الإيرانية في المنطقة ساهم في انسجام أكبر بين القوى الإقليمية، لافتًا إلى أن هذا التحول يعكس رغبة مشتركة في إبعاد النفوذ الإيراني الذي كان يسيطر على عواصم عربية عدة مثل بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء. تحديات وآفاق على الرغم من هذه التطورات الإيجابية، تبقى هناك قوى قد تُعرقل هذا التقارب، أبرزها إيران و"حزب الله"، لكن نفوذهما أصبح أضعف مما كان عليه. وبحسب شويفاتي، فإن قوى داعمة بدأت تبرز لهذا التقارب، مثل القوى السياسية الجديدة في لبنان بقيادة شخصيات مثل الرئيس جوزيف عون، الذي يحافظ على مسافة متساوية من الجميع، مما يعزز دوره كوسيط محايد. ولفت إلى أن الملفات العالقة بين لبنان وسوريا، مثل قضية المعتقلين في السجون السورية والمفقودين، إلى جانب ملف المخابرات السورية التي كانت تفرض نفوذها على لبنان، أصبحت اليوم أقل تعقيدًا مع وجود سلطات جديدة في دمشق وبيروت تتشارك رؤية مشتركة للخروج من ميراث الماضي. وأشار شويفاتي إلى أن القوى المعارضة للنظام السوري السابق، التي قادت الثورة ضده، باتت اليوم تتولى السلطة في سوريا، وهي نفسها القوى التي تجد انسجامًا مع نظيراتها في لبنان. ويرى أن غياب القبضة الإيرانية التي كانت مهيمنة على المنطقة قد أعاد الحياة السياسية إلى مسارها الطبيعي، حيث إن التعاون بين لبنان وسوريا، بدعم من القوى الإقليمية، قد يكون بداية لمرحلة جديدة من الاستقرار، بعيدا عن الخوف والضغوط التي فرضتها طهران على مدار عقود.(المشهد)