كابوس الموت على أعتاب أطواره، يلاحق أهالي غزة من شمالها إلى جنوبها، ويحلق فوق رؤوسهم في الجو، ويحاصرهم في البر كالقدر المحتوم، لا مفر منه ولا مناص، فنيران الحرب المشتعلة، والمجازر الجماعية المتكررة ليست وحدها ما يؤرقهم ويطاردهم، فالأرض المعذبة صارت تضيق بأبنائها الذين نزحوا وأقاموا خيامهم على امتداد شواطئ البحر المتوسط كملاذ أخير، هرباً من فوهات المدافع، وخوفاً على مصيرهم من هول الغارات، وتحول البحر من نعمة إلى نقمة، فلاحقتهم أمواج البحر والرياح العاتية، وأغرقت وغمرت خيمهم البدائية ومستلزماتهم اليومية، حيث تعلو المخاوف أقصاها من تفاقم أوضاعهم المأساوية. بفعل ندرة الأماكن الآمنة، وازدحام بقية المناطق، واستمرار القصف الإسرائيلي الذي طاول أغلب المباني السكنية والمظاهر الحياتية، ويهدد البقية بذات المصير، ترك الفلسطينيون منازلهم مرغمين على وجه السرعة، أملاً بالنجاة من قصف الطائرات والمدفعيات، حاملين معهم القليل من المقتنيات الشخصية، ليصبحوا فريسة تارة للجوع والعطش وطوراً للحر الشديد، ومؤخراً لظاهرة المد والجزر على طول امتداد شواطئ البحر المتوسط، الذي لجأ على ضفافه عشرات الآلاف من النازحين، هرباً من جحيم الموت ورغبة في النجاة. أقمشة بالية وصفائح معدنية متهالكة تواجه مداً وجزراً بحرياً يلاحق النازحين، الذين وجدوا أنفسهم في العراء مجدداً، فالخيام المتواضعة تتهاوى أمام الرياح وتلاطم الأمواج، التي أغرقت أغلب الخيم وسحبت معها أغراضهم وأمتعتهم، لتتسبب في مأساة حقيقية للنازحين، وتمضي في رحلة تشريدهم الأليمة. وفي هذه القضية الآخذة بالتفاقم على الجهات المسؤولة والمواطنين، حذر مدير الإعلام الحكومي إسماعيل الثوابتة لمنصة "المشهد" من الصورة القاتمة للوضع الذي ينتظر النازحين المحصورين في شريط ضيق مع تعاظم ظاهرة المد البحري، واقتراب فصل الشتاء، وشدد الثوابتة لـ"المشهد" بأن "الأمواج البحرية سوف تهيج بطريقة أوسع وأكبر مع اقترابنا من فصل الخريف ومنخفضات الشتاء، ونهايات الأمواج ستصل لتغطي رقعة كبيرة من رمال الشاطئ الذي يعج بالنازحين والخيم المهترئة من حرارة الصيف، وهذا يعني بأن العوائل النازحة ستضطر في نهاية المطاف للبحث عن أماكن نزوح جديدة، وهي معدومة بسبب أعداد النازحين المتزايد وقلة الأماكن الآمنة، وهذا يؤكد على كارثة إنسانية فظيعة مقبلة على أهالي القطاع، ونناشد المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية للتصدي لها ومد يد العون قبل فوات الأوان".المد البحري يتسلل للخيام باغت المد البحري آلاف النازحين على شاطئ بحر مدينتي خانيونس ودير البلح، بارتفاع غير مسبوق لأمواج البحر، بلغ قرابة مترين، ووصل المد البحري لمسافة كبيرة، أغرقت وطمرت خيام النزوح بسبب اندفاع المياه صوبها، وهب النازحون والمتطوعون في نقل ما تبقى من أغراضهم، ووضعوا سواتر رملية بأيديهم، في محاولة للحيلولة دون وصول الأمواج إليهم، لكنها مستمرة. ويصف النازح ناصر حرب (54) عاماً من على شاطئ خانيونس لـ"المشهد" لحظة دهم مياه البحر لخيمته وأسرته، "كنا نائمين في ساعات الليل، كانت دقائق مثل الكابوس، أمواج البحر اندفعت صوبنا بطريقة مخيفة، بللت الأمتعة والفراش وأخذت معها بعض الأطعمة والفراش"، لافتاً خلال حديثه " لم نتخذ أي تدابير على الأرض وفي الخيمة لمثل هذا الأمر المفاجئ، فمنذ أقمنا هذه الخيمة على شاطئ البحر منذ أشهر، لم يحدث مد بحري بهذه الطريقة المدمرة، سبق وأقمنا سواتر ترابية لكن الأمواج حطمتها ووصلت لمئات الخيم".وفي ذات الموقع الذي تعرض لخراب واسع بفعل الأمواج العاتية للمد البحري، يشكو النازح سعيد نوفل لـ"المشهد" من مشقة الأوضاع الحياتية التي يكابدها لتوفير مكان آمن لأسرته لكن دون جدوى، ويعبر عن شدة قلقه من المستقبل المجهول في ظل التحذيرات التي أطلقتها الجهات المسؤولة للنازحين القاطنين على شاطئ بحر خانيونس؛ لإخلاء خيامهم في أقرب وقت ممكن بفعل الخطر المحدق بهم، مع تدفق المياه وقرب فصل الشتاء، واستطرد نوفل بالقول "لا يوجد مكان أنزح إليه من جديد، لذا قررت البقاء في هذا المكان، فالخيارات معدومة ولا يوجد لدي المال للتنقل ونصب خيمة من جديد، على أمل أن تتوقف الحرب قبل فصل الشتاء".البحر يبتلع خيام النازحين لم يتمكن النازحون من انتشال أمتعتهم ومستلزماتهم البسيطة الموجودة داخل الخيم المتناثرة على شواطئ قطاع غزة، فالغرق الذي يواجهونه ينذر بكارثة إنسانية مأساوية قبيل قدوم فصل الشتاء، بعضهم يقولون إنه لا حيلة لهم سوى البقاء، وآخرون خرجوا أو يبحثون عن وجهة أخرى.تضرب الحاجة السبعينية نوال عطايا النازحة وعائلتها الممتدة المكونة من 37 فرداً، يداً على الأخرى من مصيرهم المجهول، وتقول لـ"المشهد": "منذ اندلاع الحرب نزحنا مرات عدة وفقدنا العديد من أفراد عائلتنا، حتى وصل بنا الحال على شاطئ دير البلح بحثاً عن الأمن والعيش المفقود في أرجاء غزة، والآن البحر بات يهاجمنا والطبيعة ضدنا، وفوق كل ذلك الشتاء قادم ويحمل معه البرد ومتطلبات كثيرة كيف سنتمكن من توفيرها، خيمنا على هذا الشاطئ بالية وغير صالحة للعيش، نحن الآن نبحث عن مكان وخيم جديدة ولم نجد حتى اللحظة". تقاطعها ابنتها الأربعينية عائشة عطايا لتعبر لـ"المشهد"، حول حجم "القلق الذي يعتريها ويسيطر عليها وبقية أفراد العائلة، ليل نهار في ظل الأحوال الآخذة بالصعوبة، ولا أفق قريب بوقف الحرب، فالوضع برمته يقض مضاجعنا، ويشل تفكيرنا من قلة الموارد والمستلزمات، ووجودنا على شاطئ البحر أضحى خطيرا وغير ممكن، وسيصيب الجميع بالمزيد من الأمراض، مع حلول الشتاء". وبفعل غزو عشرات الآلاف من النازحين معظم الأماكن الفارغة، والساحات العامة، لم يعد هناك أماكن تحوي النازحين، حتى المقابر امتلأت، ومراكز الإيواء تعج بالنازحين بأعداد خيالية، يجد نازحو الشواطئ صعوبة بالغة في إيجاد مكان بديل .. حتى اللحظة. (القدس - المشهد)