لم يكن خفيًا على أحد أنّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، استخدم ملف التطبيع مع سوريا كورقة رابحة في الانتخابات الرئاسية التي جرت في مايو الماضي، في وقت يمتلك فيه الملف أهمية كبيرة بالنسبة للأتراك الذين باتوا منزعجين من وجود اللاجئين السوريين في البلاد، ولا بدّ من الاتفاق مع الحكومة السورية لوضع خطة تسهّل عودة اللاجئين إلى بلادهم. بعد فوزه، أعاد إردوغان ترتيب أولوياته، وبالتالي تراجع ترتيب التطبيع مع سوريا، وهو ما تبلور بشكل فعلي من خلال عدم اهتمامه بعقد أيّ اجتماع بين الأطراف لإكمال مسار التطبيع. في المقابل، وصل قبل الانتخابات في سعيه للتطبيع، إلى طلب لقاء الرئيس السوري، في خطوة قد تُفسر على أنه أراد التقاط صورة تساعد في كسبه الانتخابات. بالنظر إلى سياسة إردوغان منذ تولّيه السلطة في البلاد، يبدو من غير المستغرب قيامه بهذه النقلة على مستوى التطبيع، إذ عُرف عنه أنه دبلوماسيّ محنّك على مستوى العالم، يتعامل مع الأمور كما تتطلب مصلحته، وبسرعة كبيرة.مبادرة إيرانية على الرغم من علاقة روسيا القوية مع كل من سوريا وتركيا، إلا أنّ هذا الثقل الروسيّ لم يستطع إحداث أيّ تأثير على مسار التقارب السوريّ-التركي، سوى جمع الأطراف تحت السقف الروسي، إذ توسطت موسكو بين الجانبين للوصول إلى حل يرضي وينسجم مع مصالح الجارتين، واستضافة عددا من الاجتماعات، أبرزها كان على مستوى وزراء خارجية الدول (سوريا- تركيا- إيران- روسيا). اليوم بعد عدم وصول موسكو لأيّ نتيجة، وهدوء مسار التطبيع، يطرح وزير الخارجية الإيرانية، أمير عبد اللهيان خطة أخرى لتطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة، إذ جاءت وكأنها إثبات وجود لإيران في الملف السوريّ كلاعب أساسيّ يسعى إلى حلول وتقريب وجهات النظر، أكثر مما هي خطة حقيقية. وبحسب عبد اللهيان فقد اقترحت إيران التزام تركيا أولًا بسحب قواتها العسكرية من الأراضي السورية، وثانيا التزام سوريا بنشر قواتها على الحدود حتى لا تتعرض الأراضي التركية للتهديد، مؤكدا أنّ إيران وروسيا ستكونان ضامنتَين في هذا الاتفاق. وفي هذا السياق، يقول المحلل والباحث السياسيّ السوريّ محمد نادر العمري في حديثه إلى منصة "المشهد"، إنه "كان واضحا خلال زيارة وزير الخارجية الإيرانية إلى سوريا مؤخرا، ثم استقباله وزير الخارجية التركية، بأنّ المبادرة الإيرانية التي أطلقها عبد اللهيان منذ عامين لا تزال على الطاولة، خصوصا أنّ هذه المبادرة أسّست إلى الاجتماع الرباعيّ على مستوى وزراء الخارجية بين الدول الأربع". ويضيف العمري، أن المبادرة تهدف إلى 3 نقاط أساسية: الأولى من خلال العودة إلى اتفاقية أضنة في ما يتعلق بالتعاون الأمني والعسكري بين سوريا وتركيا، كركيزة أساسية للتعامل بالعلاقات بين سوريا وتركيا، خصوصا أنّ العلاقات وضبط الحدود لم يكن على أفضل حال إلا من خلال هذه الاتفاقية عام 1998. الثانية هي محاولة إيرانية لوضع النقاط على الحروف، وخصوصا أنّ عبد اللهيان قال إنه لا بدّ من عمل جراحيّ لإخراج جبهة النصرة، أي الحل العسكري. الثالثة هي المسعى الإيرانيّ لإيجاد حل في مدينة إدلب، ثم تسريع تقريب العلاقات بين سوريا وتركيا. و برأي العمري، فالمبادرة حتى هذه اللحظة لم تجد القبول لدى الجانب التركيّ لسبيبين أساسيّين: أولًا أنقرة لا تزال تمارس المراوغة وتسعى إلى تكريس وجودها كأمر واقع في المنطقة الشمالية، بذرائع متعددة. الثانية الغزل الأميركي-التركي الواضح بعد اجتماع الرئيس التركيّ ونظيره الأميركيّ على هامش قمة الناتو. في حين، يشرح الصحفي المتخصص في الشأن التركي محمد طاهر أوغلو في حديثه إلى "المشهد" أنّ "فرص نجاح المبادرة ضئيلة، لأنه لا يوجد حل وسط يرضي سوريا وتركيا، والمبادرة الإيرانية تتحدث عن سحب القوات التركية من الحدود، وانتشار القوات السورية مكانها، هذا مستحيل لأنّ أنقرة على المدى القريب لن تسحب قواتها بعد التموضع طويل الأمد، والاستثمار في بعض المناطق، وبعد أن استقرت في المنطقة". ويضيف: "تركيا يمكنها أن تلعب مناورة وهي انسحابها من بعض المناطق الحدودية في إدلب، والتي لا يصدر منها تهديدات كردية، لأنّ الهدف التركيّ الأساسيّ درء أيّ خطر من التنظيمات الكردية، ومن المعروف أنّ الأخيرة لا وجود لها في إدلب".فرص النجاح يُعتبر الاقتراح الإيرانيّ ليس وليد اليوم، بل تم الإعلان عنه في اجتماعات سوتشي في يوليو الماضي بين أطراف الرباعية (سوريا- تركيا- إيران- روسيا)، لكن لم يحقق الاقتراح أيّ نتيجة حينها، بسبب تعنّت الجانبين على مطالبهما. تحاول طهران الاستناد إلى نجاح اتفاقية أضنة الموقّعة بين البلدين عام 1998 لدعم مقترحها، لكن بالوقت الراهن لا يمكن تطبيق بنود الاتفاقية كما هي، وذلك بسبب اختلاف ديناميات الصراع منذ ذلك العام إلى اليوم، وكذلك بسبب وجود قوات أجنبية على الأراضي السوريّة، تمتلك كل منها مصالح و أجندات تريد تحقيقها. وحول ذلك يبيّن الصحفي ومدير التحرير السابق لعدد من الصحف والقنوات التركية علي رضا أوزكان، في حديثه إلى منصة "المشهد"، أنّ "الاقتراح الإيرانيّ بإخراج القوات التركية من الأراضي السورية، لا يوجد فرصة لتحقيقه. السؤال الأول والمهم ما مدى نجاح الحكومة السورية في مكافحة الإرهاب؟. علينا أن نواجه الواقع، لا يمكن لدمشق القضاء على الإرهاب لوحدها، أو مع روسيا وإيران، وتحتاج إلى مساعدة أنقرة في ذلك، إذ أنّ مساعدة الأخيرة لا غنى عنها لتحقيق النصر في الحرب ضد الجماعات والمنظمات الإرهابية". ووفقًا لأوزكان فإنّ "المبادرة الإيرانية لا تحترم أولويات الجانب التركي، وعلى هذا النحو فإنّ هذه المبادرة تزيد من تعقيد ما يمكن أن نأمله من حلّ بين الدولتين". ويتابع الصحفي التركي قائلًا: "علينا أن نتقبّل أنه إذا لم تقم تركيا وسوريا بتطبيع علاقاتهما، فلن نرى السلام في المنطقة أبدا، وهذا هو المفتاح لطرد الجماعات والمنظمات الإرهابية من سوريا، لأنّ كلا الدولتين لديهما مصالحهما الخاصة في مكافحة الإرهاب، جميع "الشركاء" الآخرين موجودون في المنطقة للاستفادة من الإرهاب". معوّقات المبادرة تراكمت الخلافات بين سوريا وتركيا منذ عام 2011، ليس ذلك فحسب، بل وصلت إلى التدخل العسكريّ التركي داخل الأراضي السورية، وسيطرة القوات التركية على عدد من المناطق السورية، كذلك لم يفوّت الجانبان فرصة لتراشق الاتهامات. لذا لا يمكن لهذه الخلافات أن يتمّ حلها بسرعة، بل من المنطقيّ أن تأخذ جهدًا و وقتًا طويلا، ليس فقط من أنقرة ودمشق، بل من جميع الأطراف اللاعبة في الملف السوري.ويرى العمري أنّ هناك العديد من التحديات التي تواجه هذه المبادرة:اتساع نطاق الصراع بين الولايات المتحدة الأميركية والغرب من جانب، وروسيا من جانب آخر. ومحاولة الولايات المتحدة نقل الصراع من أوكرانيا إلى سوريا. أيضا استمرار محاولة الولايات المتحدة في جذب الجانب التركي، بما يغريه في عدد من الملفات ضمنها الملف السوري. هناك تحدٍّ آخر يتمثل بوجود التنظيمات الإرهابية ودعم هذه التنظيمات من قبل النظام التركي، سواء على المستوى السياسيّ أو العسكري. وما حدث من تغيّرات داخل هيكلية المعارضة السورية في تركيا، يبيّن إصرار تركيا على إمساك الورقة التركية، إضافة إلى أسباب تتعلق بوجود قسد. في المقابل، يلفت طاهر أوغلو إلى أنّ "عدم وجود ضوء أخضر أميركيّ يعيق التطبيع، لأنّ أيّ تحرك في شمال سوريا، لا بد أن يمر بموافقة أميركية، ورأينا كيف اضطرت تركيا إلى تأجيل العملية العسكرية التي تحدّثت عنها مرارا في شرق الفرات، بسبب عدم الحصول على ضوء أخضر أميركي، ولذلك المبادرة الإيرانية غير قابلة للتطبيق لأنها تؤثر على القوات الأميركية الموجودة والداعمة لقسد". ويُنهي طاهر أوغلو حديثه قائلًا: "طهران تريد المحافظة على وجودها في سوريا، لذلك هي تشعر بحساسية من أيّ توافقات سورية- تركية- روسية، تتجاهل أو تحيّد الدور الإيراني، وسواء هذه المحادثات أدت إلى نتيجة أو لا، المهمّ بالنسبة لإيران أن تكون حاضرة في الملف السوري".(المشهد)