يُعاني المستشفى الحكومي الوحيد بمحافظة قابس جنوب شرق تونس، تكدّس جثث لمهاجرين غير نظاميين استقبلت مشرحته بعضها منذ شهر يونيو الماضي. وقال ناشطون إنّ رائحة الموت خنقت المستشفى وباتت تشكل خطرا صحيًا على العاملين فيه وعلى المرضى والزوار. ويوجد بغرفة أموات المستشفى 54 جثّة تعود لمهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، لفظهم البحر بعد غرق المراكب التي كانت تقلّهم، وفق ما أكّد النائب عن المحافظة وعضو اللجنة الجهوية الصحيّة عماد الغابري لمنصّة "المشهد". وأشار الغابري إلى أنّ جزءًا منهم لفظه خليج قابس، بينما وُجّه الجزء الآخر لقسم الأموات بالمستشفى من محافظات مجاورة. وعادة ما يلفظ خليج قابس جثثا لغرقى انطلقوا من شواطئ محافظات مجاورة جرفتهم الأمواج بعيدا، لكنّ المدينة لا تُعتبر من النقاط المفضلة للمهاجرين غير النظاميين، الراغبين في بلوغ سواحل إيطاليا، بسبب التيّارات القويّة بها. والشهر الماضي غرق 7 مهاجرين من بينهم نساء وأطفال في تحطم قاربين قبالة سواحل قابس وصفاقس، في حين سُجّل 13 شخصا في عداد المفقودين. أشلاء وأكياس بلاستيكيّة وكشف النائب التونسي عن تكدّس جثث المهاجرين بالمشرحة منذ فترة طويلة، وهو ما نتج عنه انتشار الروائح الكريهة بالمستشفى، لافتا إلى أنه عاين وجود "البعض منها وهي عبارة عن أشلاء مكدّسة على الأرض في أكياس بلاستيكيّة". بدوره أكد الناشط بالمجتمع المدني بجهة قابس أحمد شلبي كلام الغابري، مضيفا أنّ "بعض الجثث تحلّلت ولم يتبقَّ من البعض الآخر سوى أشلاء". وكشف أنه عجز عن الاقتراب من غرفة الأموات بالمستشفى بسبب الروائح الكريهة التي تنبعث منها، قائلا: "لم أتحمّل ذلك، وحده ممرض بالمستشفى استطاع دخول غرفة الموتى، لكنهّ لم يستطع التحمّل لفترة طويلة، رغم أنه كان يضع كمّامة وأُغمي عليه بسبب روائح الجثث المتعفّنة". ونبّه المتحدث من خطورة الوضع، لافتا إلى أنّ الإطار الطبّي بالمستشفى أطلق صيحة فزع منذ فترة، مطالبا بإيجاد حلٍّ للوضع قبل أن يتحوّل إلى كارثةٍ صحيّة، قائلا: "الوضع الصحي كارثي، وقد تتطور الأمور إلى الأسوأ وربّما تنتشر أمراض وأوبئة، اذا لم يقع التدخل عاجلًا لدفن الجثث". وقابس ليست أوّل محافظة تونسية تخنق رائحة الموتى مشفاها، فقبلها بأشهر عانت محافظة صفاقس من الاشكال نفسه، بعد تكدّس جثث عشرات المهاجرين من دول جنوب الصحراء بغرفة أمواتها. وتونس من الدول التي يقصدها المهاجرون غير النظاميّين القادمين من جنوب الصحراء، أملا في بلوغ شواطئ إيطاليا، لكنّ الكثير منها يغرق قبل الوصول إلى الضفة الأخرى. ويؤرق ملف الهجرة تونس كما إيطاليا ودول الاتّحاد الأوروبي، وقد وقّعت تونس والاتحاد الأوروبي منتصف يوليو الماضي، مذكرة تفاهم لإرساء "شراكة استراتيجية وشاملة"، تركز على مجالات التنمية الاقتصاديّة والطاقات المتجدّدة، ومكافحة الهجرة غير النظامية، لكنّ ذلك لم يقلص من عدد المهاجرين نحو الضفّة الأخرى من المتوسط. وقالت وزارة الداخلية الإيطالية، إنّ شهر يوليو شهد ذروة وصول المهاجرين غير النظاميّين القادمين نحوها انطلاقا من تونس عبر البحر، مقدّرة عددهم ب 23 ألف مهاجر.حقّ مقدس وتعيش المستشفيات التونسية الواقعة على السواحل، تحت ضغط كبير، بسبب ارتفاع عدد غرقى رحلات الهجرة غير النظاميّة. وخلال الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري، عثرت السلطات التونسيّة على إجمالي 901 جثة لمهاجرين على الساحل التونسي، حسبما قال وزير الداخلية التونسي كامل الفقي، وكان من بين هؤلاء الضحايا، 26 تونسيًا و267 "أجنبيا" (أفارقة من جنوب الصحراء الكبرى)، و608 جثّة مجهولة الهويّة. ويستوجب دفن جثث الغرقى بعد إخضاعها لمجموعة من الاختبارات بغية التعرف إلى هويتها قبل الإذن بدفنها، وهو ما يستغرق وقتا طويلا ويسبّب بقاءها لمدّة طويلة بغرف الموتى أحيانا. وقال الغابري، إنّ هناك 22 جثة صادرة بشأنها أذون بالدفن منذ شهر يونيو الماضي، واستُكملت كل الإجراءات القانونية بشأنها، مؤكدا، "أنه يعود تاريخ إيداع هذه الجثث إلى 16 يونيو الماضي لكنّها لم تُدفن بعد". ورغم أنّها ليست من الشواطئ التي يقصدها الباحثون عن بلوغ الضفّة الأخرى من المتوسط، الا أنّ مستشفى قابس يُعتبر المستشفى الوحيد بتلك المنطقة، القادر على استقبال جثث الغرقى من المهاجرين غير النظاميين مجهولي الهوية. ويشرح شلبي ذلك، موضّحا، "جغرافيًا آخر طبيب شرعي يوجد بمستشفى قابس، فالمحافظات التي تقع جنوبا بعد قابس لا يعمل بها طبيب شرعي، لذلك يتم تحويل جثث غرقى محافظتَي مدنين وتطاوين إلى مستشفى قابس، لاستكمال إجراءات التعرّف إليها قبل الاذن بدفنها". وكثيرا ما تلفظ شواطئ تونس جثثا أو بقايا جثث لمهاجرين غير نظاميين، قد يحدث أن يكون بعضهم انطلق من ليبيا ولا يمكن التعرف إلى هوياتهم. فواجع الهجرة غير الشرعية لكنّ طول إجراءات تشريح الجثث ونقص أطبّاء الطب الشرعي في مقابل ارتفاع عدد الجثث الغرقى، ليست الأسباب الوحيدة وراء تكدّسها بغرف الموتى بالمستشفيات، إذ يشكّل العثور على مقابر لهم، تحديّا إضافيا على السلطات بسبب رفض السكان في مناطق كثيرة لذلك. واعتبر عبد الجبار الرقيقي عن فرع رابطة حقوق الانسان بقابس، أنّ الأسباب وراء عدم دفن الجثث التي استُكملت جميع إجراءات التعرّف إليها قانونيا، ليست مفهومة وهو ما زاد في تعقيد الوضع. وأضاف أنّ عدم التعجيل بدفنهم يمسّ من حقهّم المقدّس في مراسم دفن تحفظ كرامتهم. ومساء الاثنين، عُقدت جلسة عمل بمقرّ محافظة قابس جمعت كل الأطراف المتدخلة في الملف، بغاية إيجاد حلّ لهذه الأزمة وفق الغابري، الذي أكدّ أنه وقّع الاتفاق على التسريع بدفن ال 22 جثة التي استُكملت الإجراءات القانونية بشأنها، في انتظار استكمال ملفات البقيّة. ولا يُعرف بعد أين سيقع دفن هذه الجثث، وكثيرا ما شكّل موضوع المقبرة التي قد يُدفن بها الغرقى من مهاجري جنوب الصحراء، موضوعا خلافيًا في تونس. وفي عام 2019، عارض سكّان دفن مهاجرين غير نظاميين بمقابر المدينة، بسبب عدم معرفة دياناتهم وفق ما أكّده شلبي الذي تابع قائلًا:واجهنا معارضة قويّة حينها من البعض ممّن رفضوا أن يُدفن غرباء لا تُعرف دياناتهم بمقابر المسلمين. وهو ما أجبرنا على تخصيص مربّع صغير لهم، أطلقنا عليه تسمية "مقبرة الغرباء"، لكنه تعرّض للتهشيم والتكسير ليلًا من طرف مجهولين. ومنذ تلك الحادثة نواجه صعوبة في إيجاد قبور لضحايا مآسي وفواجع الهجرة غير الشرعيّة.(المشهد)