يشهد الوضع السياسيّ والأمنيّ في مالي، تطورًا غير مسبوق بعد إعلان المجلس العسكريّ إنهاء اتفاق سلام أُقرّ قبل نحو 9 أعوام مع حركة تحرير "أزواد" الانفصالية، والتي تُهيمن عليها الطوارق، وذلك في خطوة يرى مراقبون أنها ستزيد على الأرجح من أزمات البلد الإفريقيّ الذي تعصف به الصراعات.وعملت الجزائر بشكل حثيث على مدار أعوام للتوسط في إعادة الهدوء والسلام لشمال مالي، والتي تكللت بـ"اتفاق الجزائر" الذي وُقّع في العام 2015، بين الحكومة المالية و"الأزواد"، لكن خلال الأسابيع القليلة الماضية اندلع الخلاف بين باماكو والجزائر، بعد احتجاج المجلس العسكريّ للجارة الشمالية على عقد اجتماعات من دون علم السلطات المالية، تجمع معارضين وبعض الحركات الموقّعة على اتفاق 2015. الأمر الذي دفع مالي لإعلانها إنهاء اتفاق السلام الرئيسي، حيث قال رئيس الوزراء المالي شوكيل كوكالا مايغا في مقطع فيديو نُشر قبل أيام: "من الآن فصاعدًا، لا مفاوضات خارج باماكو. لن نذهب بعد الآن إلى دولة أجنبية للحديث عن مشاكلنا". وتثير التطورات المتلاحقة في المشهد المالي، تساؤلا عدة حول مستقبل الدولة الغرب إفريقية في ظل منطقة مشتعلة بالفعل، وانعكاس قرار مجلسها العسكريّ على علاقتها بالجارة الشمالية، والتي حذّرت في بيان رسميّ من خطورة قرار الانسحاب من اتفاق السلام. تطورات خطيرة على المنطقةويعتقد الخبير الاستراتيجيّ الدكتور نبيل كحلوش خلال حديثه مع منصة "المشهد"، أنّ إنهاء الاتفاق كان متوقعًا نظرًا لمجموعة من المؤشرات التي تجلت خلال الأشهر الأخيرة من بينها: السيناريو بدا جليًا بعدما قطع المجلس العسكريّ الحاكم علاقاته مع فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة التي نشرت قواتها في البلاد، في المقابل وثّقوا صلاتهم مع روسيا، عن طريق مجموعتها المسلحة "فاغنر". منذ طرد بعثة الأمم المتحدة من البلاد، تشكلت لدى باماكو، صورة بأنها قادرة على حسم صراعها ضد "الأزواد" بفضل الدعم الروسي. الوضع الحاليّ، قد يدفع جماعات انفصالية أخرى التي تنتشر بوسط مالي وتتدهور علاقتها بالسلطة المركزية لتشكيل تحالفات، وفي هذا السياق ترى الحكومة المالية أنها أصبحت قادرة على تحصين سيادة بلادها، ومنع أيّ أشكال للتدخل الخارجيّ مهما كانت صيغته وطبيعته، وهو ما حاول الرئيس الموقّت رسمه في خطابه بمطلع يناير الجاري، وذلك بتوطين الحل في مالي وإطلاق حوار وطنيّ داخلي، والهدف من إطلاق من هذا الأخير، هو تغطية العمليات العسكرية التي سيقوم بها ضد من يرفض الاستجابة، وبالتالي تحقيق ما يريد من شرعية للقضاء على المعارضين. هذه المؤشرات المتراكمة يمكن أن تُنذر عمليًا بعودة إلى الحرب الأهلية، لكن بشكل أخطر عما كان في 2012، لأنّ منطقة الساحل كلها تشهد اضطرابًا مستمرًا. وقبل أيام، شكّل المجلس العسكريّ في مالي لجنة لتنظيم حوار سلام وطني، بعدما ألغى اتّفاق السلام الرئيسيّ مع الجماعات الانفصاليّة في الشمال، حيث ستكون اللجنة التوجيهية للحوار المالي من أجل السلام "مسؤولة عن إعداد وتنظيم" هذا الحوار، حسبما ذكر مرسوم وقّعه رئيس المجلس العسكريّ الكولونيل أسيمي غويتا.ردّ جزائري على الانسحابمن جانبها، ردت الجزائر سريعًا من خلال بيان لوزارة الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج، أكدت فيه أن "الجزائر تحيط علمًا بهذا القرار الذي تودّ أن تشير إلى خطورته الخاصة بالنسبة لمالي نفسها، وبالنسبة لكل المنطقة التي تتطلع إلى السلم والأمن وللمجتمع الدوليّ برمّته، الذي وضع كل ثقله والكثير من الموارد لمساعدة مالي على استعادة الاستقرار من خلال المصالحة الوطنية". ويضيف البيان "لا يخفى على أحد أنّ سلطات مالي كانت تحضّر لهذا القرار منذ مدة طويلة. فقد تجلت بوادر هذه الخطوة منذ عامين في تراجعها شبه الكلّي عن تنفيذ الاتفاق ورفضها المستمر لكل محاولة تهدف إلى بعث تنفيذ الاتفاق، وتشكيكها في نزاهة الوساطة الدولية، وتصنيفها للموقّعين على الاتفاق، المعترف بهم بحسب التقاليد والأعراف، على أنهم قادة إرهابيون، إضافة الى طلبها انسحاب بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) وتكثيفها مؤخرًا لبرامج التسلح بتمويل من بلدان أجنبية، ولجوئها إلى الاستعانة بالمرتزقة الدوليّين، حيث عبّدت هذه التدابير الممنهجة الطريق إلى التخلّي عن الخيار السياسيّ لفائدة الخيار العسكريّ كوسيلة لحل الأزمة المالية". وبحسب تقرير سابق لوكالة الأنباء الفرنسية، فإنّ اتفاق الجزائر بدأ فعليًّا بالانهيار العام الماضي، عندما اندلع القتال بين الانفصاليّين والقوّات الحكوميّة الماليّة في أغسطس بعد 8 سنوات من الهدوء، وذلك على خلفية تنافس الجانبين إلى سدّ الفراغ الذي خلّفه انسحاب قوّة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة. عواقب أمنية وخيمة في هذا السياق، يرى المتخصص في الشؤون الأمنية والعسكرية لحسن قرود خلال حديثه مع منصة "المشهد"، أنّ الشعب الماليّ يدرك أنّ مثل هذه القرارات المتسرعة والاندفاعية، قد أثبتت في السابق أنّ الخيار العسكريّ هو التهديد الأول لوحدة وسلامة الأراضي، وأنّ هذا الخيار يحمل بين طياته بذور حرب أهلية في مالي، ويزيد من تعقيد المصالحة الوطنية، كما يشكل تهديدًا فعليًا للأمن والاستقرار الإقليميّين. ويضيف قرود أنّ المنطقة الحدودية بين دول النيجر وبوركينا فاسو ومالي، والتي توصف بأنها "المثلث الأخطر"، حيث تنشط تنظيمات إرهابية عدة، قوّت حضورها خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا بعد عدوى الانقلابات العسكرية التي تشهدها المنطقة منذ عام 2020، وهو ما يؤثر على كل محاولة لنشر الأمن والسلم. وعن ردود الفعل المنتظرة، يرى المتخصّص في الشؤون الأمنية، "أنّ الجزائر لن تسعى نحو التصعيد في علاقتها مع حكومة باماكو، لكنها ستراقب وتحاول إرسال رسائل للأطراف المعنية بالأمن والاستقرار في مالي، ومنطقة الساحل، ما يجعلها تحافظ على هدوئها وحكمتها الدبلوماسية وبُعدها عن أيّ لغة عنف أو تصعيد، أو حملات دعائية". (الجزائر - المشهد)