لا تقتصر تداعيات الصراعات المُسلحة في البلدان المُختلفة، على الكوارث الإنسانية والاقتصادية التي تُصاحب هذا الاقتتال، ولكن قد تمتد آثارها النفسية والاجتماعية لأبعد من ذلك، وربما تستمر لأجيال لاحقة. ومنذ عام 2011 دخلت الدولة السورية، دوامة الصراعات مُسلحة، ما أدى إلى تهجير ملايين السوريّين وقتل عشرات الآلاف منهم، فضلًا عن دخول البلاد في اقتتال وتشرذم لا تزال تداعياته مستمرة حتى الآن.التخلي عن الأطفالونتيجة لتلك الاضطرابات، كشف المرصد السوريّ لحقوق الإنسان في تقرير حديث له، انتشار ظاهرتين في سوريا خلال السنوات الماضية، وهما: إلقاء الأطفال الرُضع في الشوارع.الانتحار.وقال المرصد في بيان، إنّهم رصدوا خلال الساعات الماضية، حادثتَي تخلٍّ عن طفلين رضيعين ضمن منطقتَي الحسكة وحماة.ولفت إلى أنّ هذه الحوادث تأتي في ظل تزايد حالات التخلي عن الأطفال حديثي الولادة، لأسباب عديدة، منها بسبب العلاقات غير الشرعية، ولأسباب اقتصادية ومعيشية، حيث يلقون بأطفالهم في "الحاويات" والحقائب والأكياس، وأمام المساجد، وعلى قارعة الطريق. ووثّق نشطاء المرصد السوريّ 25 حالة تخلٍّ عن أطفال حديثي الولادة في مختلف المناطق السورية، وعلى اختلاف الجهات المسيطرة، منذ مطلع العام 2024.الانتحار في سورياوكشف المرصد أنّ المناطق السورية تشهد أيضًا تزايدًا ملحوظًا في عدد حالات الانتحار منذ مطلع العام الحالي، لأسباب مختلفة، غالبيتها أفرزتها الظروف التي تمر بها البلاد، حيث يعيش المواطن السوريّ أوضاعًا صعبة. وتُعتبر المناطق الخاضعة لسلطة النظام أكثر المناطق التي شهدت فيها حالات الانتحار، مع سوء الأوضاع والظروف المعيشية والحالة النفسية وغياب الدعم النفسي، وعدم وجود الضمان والحماية للمواطنين السوريّين. ووثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان، 42 حالة انتحار بينهم 9 أطفال و10 سيدات في مختلف أنحاء الدولة.أسباب تفشي الظاهرتينوفي التفاصيل، قال مدير المرصد السوريّ لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، إنّ هذه المشاكل منتشرة بشكل كبير في كل المدن السورية، لافتًا إلى أنهم استطاعوا توثيق حالات محددة، ولكن هناك حالات أخرى لم يتمكنوا من توثيقها. وأضاف في حديث لمنصة "المشهد"، أنّ ظاهرة إلقاء الأطفال في الشوارع لها أكثر من سبب، ولكن تأتي العلاقات غير القانونية على رأس الأسباب، يليها الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها السوريون. وكشف أنّ تفشي الظاهرتين في كل مناطق سوريا وليس مناطق سيطرة الحكومة فقط، لافتًا إلى أنّ حالات الانتحار تتعلق أغلبها بالعنف الأسري، ولكن في أحيان أخرى تكون حالات انتحار من الأزواج بسبب تردي الظروف الاقتصادية. ورأى مدير المرصد السوريّ لحقوق الإنسان، أنّ الحلول لهذه المشاكل يجب أن تكون شاملة من خلال حل الأزمة السورية من الأساس، من خلال تحسين ظروف معيشة الناس.تداعيات خطيرة في المستقبلبدورها، قالت خبيرة الصحة النفسية، الدكتور ريما بجاني، إنّ قيام الأشخاص بتصرفات تتعلق بترك أطفالهم في الشارع، أو إقدامهم على الانتحار تزداد في الظروف الاستثنائية الناتجة عن أوضاع اقتصادية صعبة أو حروب وصراعات. وأشارت في حديث لـ"المشهد" إلى أنّ استيعاب الأشخاص للتغيرات الطارئة في ظروف المعيشة، تختلف من شخص لآخر، مُضيفة: "في هذه الظروف تظهر القدرات الشخصية للأشخاص، فمنهم من يستطيع أن يتعامل مع هذه الظروف، ومنهم من يلجأ إلى تصرفات غير متّزنة كالانتحار". وأوضحت بجاني أنّ التعامل مع هذه الظواهر يجب أن يكون وفق إطارين: البحث عن الأسباب التي دفعت الإنسان للتصرف بهذا الشكل، فهناك أشخاص ليس لديهم استعداد للتعامل مع المشكلات.العمل على تخفيف التداعيات السيئة للأزمات والحروب.لكن ما الحل؟ ترى خبيرة الصحة النفسية، أنّ الحل يجب أن يتضمن مراحل عدة: وقف الحرب ووقف تدهور الظروف المعيشية.التوعية الجنسية لكيفية تجنب الحمل.توعية لاحقة للتعامل مع حالات الحمل من خلال مراكز متخصصة ومجهزة لاستقبال هذه الحالات.طلب الدعم والمساعدة في حالة الشعور بالرغبة في الانتحار.وقالت إنّ الإنسان القادر على التخلي عن طفله لا يمكن لومه، لأنه في هذه الحالة لا تكون تصرفاته منطقية أو نابعة من وضع إنسانيّ طبيعي، لافتة إلى أنّ الأزمات الكبيرة تجعل الإنسان لا يفكر بطريقة سليمة. ما تداعيات تفشي هذه الظاهرة؟ تُجيب الدكتور ريما بجاني بقولها إنّ التداعيات ستكون على أكثر من مستوى: اضطرابات سلوكية ونفسية للأشخاص الذين يتعرضون لمثل هذه المواقف.تداعيات على المستوى الطويل تتعلق بالأطفال الذين ينشأون في ظروف غير طبيعية، لأنهم في يوم من الأيام سيعرفون أنهم تعرضوا لمثل هذه التصرفات في طفولتهم.تبنّي هؤلاء الأطفال ميولًا عدوانية انتقامية نتيجة نشأتهم في ظروف غير طبيعية.وعي مجتمعي بدورها، قالت استشارية الصحة النفسية السورية، الدكتورة غالية اسعيد، إنّ ظاهرة تخلي الأمهات عن أبنائهنّ قد تعود إلى أسباب عديدة ومخيفة، تتماشى مع سوء الحالة النفسية والاجتماعية مثل:حالة الفقر المتفشي بين فئات المجتمع والزيجات المبكّرة الكثيرة المنتشرة في الآونة الاخيرة بشكل ملحوظ.بعض العلاقات غير الشرعية التي تُفرض تحت التهديد والاستغلال النفسيّ والاجتماعيّ للنساء.غياب الجهات الداعمة للأم وأطفالها.الضغط المجتمعيّ السلبيّ الذي يُمارَس في بعض المجتمعات.وأضافت في حديث لـ"المشهد"، أنّ كل هذه الأسباب تؤدي في النهاية بالمرأة تحت الضغط إلى التخلي عن رضيعها. وتابعت بقولها: "قد يُهيأ للوهلة الأولى، أنّ السيدة التي تخلت عن رضيعها أنها سوف تعيش حياة مناسبة أو تهرب من مسؤوليتها أمام طفلها، ولكن ما يحدث أنّ عددًا كبيرًا من الأمهات المتخلية عن أطفالهن، قد سجلت تدهورًا مُخيفًا في الحالة النفسية مع تدني ملحوظ وسريع للوضع الاجتماعي، ما قد يؤدي إلى بعض منهنّ للانتحار في نهاية المطاف، نتيجة لحالة الأذى النفسيّ وتأنيب الضمير، والصراع الداخلي الذي تعيش آلام ضحيته".وأشارت اسعيد إلى أنّ حالات الانتحار قد تزداد بين السيدات حديثات الولادة من دون التخلي عن أطفالهن، وذلك قد يرجع إلى غياب الزوج، ما قد يؤدي بالسيدة إلى العجز عن رعاية الطفل وتدهور حالتها النفسية.سبب آخر يدفع الزوجات إلى الانتحار، مثل أن يكون الزوج من المعنفين الذي يعامل زوجته بالضرب والإيذاء الجسدي، ما يجعلها تقرر الانتحار وترك الطفل خوفًا من عدم قدرتها على الدفاع عنه. وترى اسعيد أنّ التعامل مع هذه الحالة، يتطلب وعيًا مجتمعيًا يتمثل في:تدخّل سريع من جهات خاصة كمنظمات دولية أو وحدات دعم نفسيّ داخلية ومحلية، مع محاولة نشر الأمان والمساعدة والحماية للأم، حتى لا تصل لفكرة رمي طفلها.تقديم حلول لمساعدتها من رعاية الطفل أو حتى محاولة تأمين فرص عمل للأمهات في ما بعد.وتُشير استشارية الصحة النفسية، إلى أنّ تداعيات هذه الظاهرة تكون مؤلمة ومُدمرة نفسيًا على المجتمع وكذلك الأم، الأمر الذي يتطلب تدخل طبيب نفسيّ مع معالجة دوائية، لأنّ الاكتئاب الشديد الذي تمرّ به الأمهات، إذا لم يتم علاجه فهو حتمًا سيؤدي إلى الانتحار.(المشهد)