أرادت إيران خلال الأيام الماضية إرسال رسالة تحذيرية إلى الولايات المتحدة وإسرائيل والقوى الإقليمية الأخرى، من خلال استعراض عضلاتها بمنطقة الشرق الأوسط، وذلك بطريقة هادفة بعيدا عن الخطوط الأمامية للحرب الدائرة في غزة، حسبما جاء في تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز". وأول علامة على أن إيران شعرت بالحاجة إلى استعراض عضلاتها بشكل مباشر بعد أشهر من التوتر في جميع أنحاء الشرق الأوسط، جاءت عندما نزلت قواتها البحرية الأسبوع الماضي من طائرة هليكوبتر للاستيلاء على ناقلة نفط. وبعد أيام، جاء دور الحرس الثوري لإظهار قدرته العسكرية، حيث أضاء سماء أربيل في شمال العراق بعد إطلاق وابل من الصواريخ الباليستية لاستهداف ما وصفته إيران بأنه "مركز تجسس" إسرائيلي. ومع ذلك، فُسِّرت هذه التصرفات في طهران أيضا على أنها جزء من الرد المحسوب على الهجوم الإسرائيلي الذي استمر أكثر من 100 يوم على غزة، حيث يقول المحلل الإيراني سعيد ليلاز إن "سلسلة الهجمات مرتبطة بالتأكيد بالحرب على غزة، وهي استعراض للقوة باعتبارها القوة العسكرية الوحيدة والقائدة التي تقف في وجه إسرائيل". وكانت هذه الهجمات هي الأولى التي تطلق فيها إيران العنان لجيشها بشكل مباشر منذ أن أدى هجوم "حماس" في 7 أكتوبر إلى الحرب مع إسرائيل، الأمر أدى إلى مخاوف واسعة بالشرق الأوسط.ضربات متتالية لـ"محور المقاومة"ومنذ البداية، كانت هناك مخاوف في إسرائيل وحلفائها الغربيين وبين الدول العربية بشأن كيفية رد إيران والجماعات المسلحة التي لا تعد ولا تحصى والتي تدعمها. وبعد أيام من هجوم "حماس"، حذّر الرئيس الأميركي جو بايدن إيران، قبل إرسال مجموعتين من حاملات الطائرات إلى المنطقة كرادع. وفي الأشهر التي تلت ذلك، قام زعماء إيران بتوبيخ إسرائيل وأعربوا عن دعمهم لـ"حماس"، ولكنهم أعلنوا عن رغبتهم في تجنب الصراع الإقليمي، وأبقوا قواتهم خارج النزاع. وكان النظام الإيراني راضياً بما يسمى "محور المقاومة"، الذي يضم جماعات مسلحة في لبنان وسوريا والعراق واليمن، لقيادة الرد العسكري، وشن هجمات ضد إسرائيل والقوات الأميركية في المنطقة وتعطيل خطوط الشحن الدولي. ومع ذلك، يبدو أن سلسلة من الأعمال العدائية على مدى الأسابيع الـ3 الماضية، والتي استهدفت الإيرانيين وكذلك كبار قادة وكلاء الجمهورية، قد أجبرت إيران على رفع مستوى التحدي، حسبما يذكر التقرير. وأسفرت غارة جوية إسرائيلية في سوريا عن مقتل قائد كبير في الحرس الثوري في نهاية ديسمبر الماضي. وفي الأسبوع التالي، أدت غارة إسرائيلية أخرى إلى مقتل صالح العاروري، نائب الزعيم السياسي لحركة "حماس"، في جنوب بيروت، معقل جماعة "حزب الله" اللبنانية والتي تعد أقوى وكيل لإيران بالمنطقة. وفي 3 يناير، وهو اليوم التالي، قتل انتحاريان ما يقرب من 100 إيراني كانوا قد تجمعوا في مدينة كرمان الجنوبية لإحياء ذكرى اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني، أقوى قائد في الجمهورية. وأعلن تنظيم "داعش" مسؤوليته عن الهجوم، ولكن فقط بعد أن أشار قادة الحرس الثوري إلى أن إسرائيل هي المسؤولة. وبعد ذلك، أدت ضربة أميركية في بغداد إلى مقتل قائد كبير في ميليشيا عراقية مدعومة من إيران، مما وجه ضربة أخرى لمحور الممانعة. وعندها بدأت إيران في توجيه الضربات بشكل مباشر، إذ وصف الحرس الثوري هجومه على أربيل بأنه رد على "الفظائع الأخيرة للنظام الصهيوني" فضلا عن مقتل قادة الحرس و"المقاومة". وفي الوقت نفسه، أطلقت إيران صواريخ ضد أهداف "داعش" في سوريا، ردا على التفجيرات الانتحارية في كرمان. وفي هذا الأسبوع، شنت ضربة نادرة في باكستان، استهدفت جماعة جيش العدل. وردت إسلام آباد بهجمات صاروخية على الانفصاليين الباكستانيين في إيران.قصف باكستان وأربيل.. رسالة مباشرة وقال مسؤول إيراني إن الضربات الإيرانية لا تمثل تغييراً في الاستراتيجية، بل تغييراً في التكتيكات لتوعية الولايات المتحدة وإسرائيل بالتهديد الذي يمكن أن تشكله طالما استمرت الحرب في غزة. ويضيف المسؤول: "إن إشراك باكستان وأربيل يبعث برسالة مباشرة إلى الإسرائيليين والأميركيين، وهي: لا تعبثوا مع إيران، وأنهوا الحرب في غزة"، مشيرا إلى أن بلاده لا تريد حربا مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة، "لكننا نريد أن يراها الأميركيون ويشعروا بها، وأن نظهر مدى قدرتنا". ويؤكد المسؤول الإيراني بحسب "فايننشال تايمز" أن هذه الاستراتيجية لا تخلو من المخاطر، لكن المتشددين داخل إيران يعتقدون أنه يمكن السيطرة على الضرر، "ومن وجهة نظرهم، فإن المشاركة المحدودة والمحسوبة يمكن أن تعطي رسالة إلى وكلاء إيران مفادها أننا ندعمهم في الأوقات الصعبة". ومنذ الحرب المدمرة مع العراق في ثمانينيات القرن العشرين، جعل النظام الإيراني وكلاءه والحرب غير المتكافئة جزءا لا يتجزأ من استراتيجيته الأمنية الوطنية، مدركا أنه يفتقر إلى الأسلحة التقليدية التي تضاهي الولايات المتحدة أو إسرائيل. وهذه الشبكة، التي بدأت مع ولادة "حزب الله" في الثمانينيات، توسعت على مدى العقدين الماضيين مع قيام الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003 والاضطرابات التي أثارتها الانتفاضات العربية عام 2011 بإعادة تشكيل ديناميكيات المنطقة. وأصبح هذا التجمع، الذي توحدت أيديولوجيته المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل، يضم فصائل شيعية قوية في العراق، وميليشيات في سوريا، و"حماس" في غزة، و"الحوثيين" في اليمن. وردت كل من هذه الميليشيات عسكريا على الهجوم الإسرائيلي على غزة، حيث "حزب الله" منخرط في اشتباكات يومية عبر الحدود، و"الحوثيون" شنوا أكثر من 30 هجوما ضد السفن التجارية في البحر الأحمر، فضلا عن طائرات مسيرة وصواريخ على ميناء إيلات الإسرائيلية. فيما أطلق المسلحون العراقيون أكثر من 140 صاروخًا وطائرة مسيرة ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا.وتصر طهران علنا على أن الميليشيات المسلحة الموالية لها تتصرف بشكل مستقل، ولكن مكنت تصرفاتهم القادة الإيرانيين من إظهار القوة والعداء لإسرائيل، مع إبعاد طهران نفسها عن القتال المباشر وتقليل مخاطر جرها إلى صراع أوسع، حسبما يذكر التقرير. ورغم ذلك، يتهم المسؤولون الأميركيون الإيرانيين بـ"التورط العميق" في التخطيط لهجمات "الحوثيين" على السفن، قائلين إنهم قدموا طائرات مسيّرة ومعلومات استخباراتية للمجموعة. ولطالما قدمت إيران الدعم المالي والعسكري لمسلحي "حزب الله" والفصائل العراقية المجتمعة تحت مظلة قوات الحشد الشعبي. ويتباهى حامد رضا تراغي، وهو سياسي إيراني متشدد، بأن الهجمات التي أعقبت 7 أكتوبر قدمت "تدريباً عسكرياً جيداً" لمحور الممانعة. ويقول: "هناك اليوم المزيد من الوحدة والتنسيق بين المجموعات المختلفة لمحور الممانعة، وهم يساعدون بعضهم البعض، ويعرضون حياتهم للخطر للدفاع عن مقاتليهم الآخرين في أماكن مختلفة. والسبب هو أنهم جميعاً يتبعون زعيماً واحداً، وهو مرشد إيران". وهذا الشهر قال المرشد الأعلى لإيران على خامنئي إن "المقاومة يجب أن تحافظ على قوتها وأن تكون مستعدة، ولا تسقط في فخ حيل العدو".ما مدى فعالية إيران في إدارة الأزمة؟ وفق "فايننشال تايمز"، يتساءل البعض في العواصم الغربية عن مدى فعالية إيران في إدارة الأزمة الحالية، رغم التشكيك من قبل آخرين، حيث يقول خبير الشؤون الإيرانية في مجموعة الأزمات علي فايز: "إيران ليست العقل المدبر اللامع الذي يرى البعض أنه يعمل باستراتيجية واضحة وأهداف ملموسة ومناورات ذكية. الكثير من أفعالها تبدو رد فعل، ومتدافعة، وقصيرة النظر، ومتهورة". ويضيف أنه على النقيض مما يقوله القادة الإيرانيون، فإن الضربات التي استهدفت قادة الحرس الثوري و"حزب الله" والميليشيا العراقية قد قللت من جهود إيران الرامية إلى إبراز الردع الإقليمي من خلال محور الممانعة، ووضعتها "في موقف دفاعي". ويكمن قلق خبير الشؤون الإيرانية في مجموعة الأزمات علي فايز في أن تتجه طهران إلى طريق آخر لزيادة المخاطر مع الولايات المتحدة، ألا وهو برنامجها النووي. وقبل اندلاع الحرب بين إسرائيل و"حماس"، كانت هناك علامات أولية على حدوث انفراجة في المواجهة بين الغرب وإيران بشأن طموحاتها النووية. وفي سبتمبر الماضي، اتفقت إدارة بايدن وطهران على تبادل السجناء، الذي تضمن قيام واشنطن بالإفراج عن 6 مليارات دولار من أموال النفط الإيرانية. وإلى جانب هذا الاتفاق، ناقش الطرفان إجراءات غير مكتوبة لخفض التصعيد، بما في ذلك وضع طهران حدًا لتوسعها النووي العدواني، وكانت هناك دلائل على أن إيران تبطئ وتيرة إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب. لكن الصراع في غزة بدد الآمال في تحقيق تقدم، وبدلا من ذلك، ذكر تقرير صدر في ديسمبر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن طهران زادت معدل إنتاجها من اليورانيوم المخصب بنسبة نقاء تصل إلى 60%، وهي قريبة من النسبة التي تؤهلها لإنتاج سلاح، وهو الأمر الذي يعتبره خبير الشؤون الإيرانية علي فايز "يمكن أن يغير الحسابات النووية، وبطرق مثيرة للإشكاليات". ونقلت "فايننشال تايمز" عن مسؤول إيراني قوله إن زيادة التخصيب كانت رسالة إلى إدارة بايدن بعد أن أبلغت واشنطن طهران بأنها لن تناقش الملف النووي إلا بعد الانتخابات الأميركية، مضيفا: "إذا أرادت أميركا الانتظار، فعليها أن تعاني من العواقب، وستكون العواقب هي زيادة التخصيب".لكن النتيجة التي لا يريدها أي من الطرفين هي التصعيد العسكري، حسبما يشير التقرير، مؤكدا على أن الولايات المتحدة وإيران تعتمدان على القنوات الخلفية من خلال دول مثل قطر لمحاولة منع تفاقم الأوضاع. وتعتقد مديرة برنامج الشرق الأوسط في "تشاتام هاوس" سنام فاكيل، أن النظام الإيراني سيستمر في تشدده بسبب هدفه النهائي: "الحفاظ على الذات". وأضاف: "الأولوية الأولى لإيران هي إيران، ويجب ألا ننسى ذلك أبدا. ولن تحشد طهران قواتها إلا إذا تعرضت لضربة مباشرة". لكنها أيضا، ستستمر في الاعتماد على شبكة وكلائها في المنطقة لاستعراض قوتها، حسبما تقول فاكيل، مضيفة: "إيران لديها استراتيجية دفاعية متقدمة وضعتها موضع التنفيذ وحاولت دفع التهديدات بعيدا عن حدودها. لكن من المهم عدم المبالغة في الترويج لمكانة إيران في المنطقة أو استثماراتها في محور الممانعة". ومع ذلك، فإن السؤال الحاسم هو ما إذا كانت الحسابات في طهران ستتغير إذا اندلعت حرب شاملة بين إسرائيل و"حزب الله" والذي يرى البعض أنه لا غنى عنه. وهو ما يؤكده أيضا المسؤول الإيراني لصحيفة فايننشال تايمز، قائلا: "(حزب الله) ليس (حماس). (حزب الله) هو جمهورية إيران الإسلامية".(ترجمات)