تتجه الأنظار منذ نحو شهر ونصف الشهر في غزة، إلى الخسائر الكبيرة في الأرواح التي ترتفع يومًا بعد آخر، مع استمرار القصف الإسرائيليّ على القطاع.لكنّ هذه الخسائر البشرية والتي تزامنت مع وقوع خسائر مادية كبيرة قدرتها السلطات المحلية بتدمير أكثر من 60% من البنية التحتية للقطاع، لا يمكن أن تحجب جريمة أخرى ترتكبها إسرائيل ضدّ البيئة والمناخ في غزة، وفي منطقة الشرق الأوسط ككل. ورغم أنّ تأثيرات الحرب على المناخ في القطاع ومنطقة الشرق الأوسط لا يمكن تقديرها بشكل دقيق، وفق خبراء تحدثت إليهم منصّة "المشهد"، فإنّ هذه التأثيرات تظلّ قائمة ومهمّة بالنظر إلى ما رافق القصف من انبعاثات عسكرية يوميّة منذ نحو شهر ونصف الشهر. ويُجمع العلماء على أنّ الحروب التي سجلها التاريخ على مرّ القرون، كان لها تأثير كارثيّ أدّى إلى تدهور كوكب الأرض، إذ إنّ الأنشطة العسكرية تُنتج كميات كبيرة من الغازات الدفيئة، ما يسبّب التلوث الذي يساهم في تغيّر المناخ الناتج عن الأنشطة البشرية.كوب 27 وحرب روسيا وأوكرانياويستهلك جيش إسرائيل مثل كل الجيوش كميات هائلة من الوقود الأحفوري، ويطلق انبعاثات الغازات الدفيئة، ما يساهم بشكل مباشر في ظاهرة الاحتباس الحراري. وكانت الحرب في أوكرانيا قد سلطت الضوء خلال "كوب 27" على انبعاثات الغازات الدفيئة الهائلة للجيوش، التي لم يسبق التطرق إليها بشكل كبير. ووفق تقرير سابق نشرته مجلة "نيتشر" الأميركية، وأعدّه خبراء في المجال، قدّر العلماء انبعاثات الغازات المسؤولة عن الاحترار المناخيّ المرتبطة بالنشاطات العسكرية، بما يتراوح بين 1% و5% من الانبعاثات العالمية.ومنذ بداية الهجوم الإسرائيلي على غزة، ألقى الجيش الإسرائيليّ آلاف الأطنان من المتفجرات على القطاع، وأكد متخصّصون أنّ حجمها يتجاوز قوة القنبلة النووية التي أطلقتها الولايات المتحدة على هيروشيما اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.جريمة مناخيّةويقول الباحث الدائم من الجزائر مهماه بوزيان لمنصّة "المشهد"، إنّ الحرب التي تقودها إسرائيل ضدّ غزة "جريمة مناخية تنسف كل الجهود الأمميّة للحدّ من انبعاثات الغازات الدفيئة وكبح سيرورة الاحترار العالمي". وفي دراسة دقيقة لحجم المتفجرات التي استعملتها إسرائيل في قصف غزة وأنواعها، كشف الباحث أنّ "الحروب الواسعة النطاق لما بعد 11 سبتمبر بين عامَي 2001 و2017، نتج عنها إطلاق 1.2 مليار طن من الغازات الدفيئة في الجو، وهو ما يمثّل أكثر من الانبعاثات السنوية الناتجة عن سير 257 مليون سيارة، منها 400 مليون طن من الغازات الدفيئة، ترجع بشكل مباشر إلى استهلاك الوقود المرتبط بالحرب، والجزء الأكبر منه ما استُهلك خصيصًا في الطائرات العسكرية". ويتابع: "قياسًا على ذلك سنجد أنّ حجم الغازات الدفيئة المنبعثة، خلال 5 أسابيع فقط من القصف على غزة، قد تجاوز 118 مليون طن، وهو ما يُقارب تقريبًا إجماليّ انبعاثات غاز الميثان، مقارنة مع الحدّ الأعلى لنطاق تقديرات الانبعاثات الناجمة عن صناعة النفط والغاز في العالم ككل، والتي قدّرها نظام تتبّع غاز الميثان التابع لوكالة الطاقة الدولية ضمن نطاق 80 - 135 مليون طن سنويًا (2022)".ويضيف: "لو نقوم بحسب الأثر البيئيّ من دون الأخذ في الحسبان استهلاك الوقود، أي باحتساب صفر استهلاك وقود لمنظومة القصف ككل، لصعوبة تقدير المسافات، أي نعتمد فقط 800 مليون طن من الغازات الدفيئة، سنجد بأنّ في حالة الحرب على غزة تقدّر بـ79 مليون طن، أي أنه يتوافق مع الحدّ الأدنى لمستوى الانبعاثات الناجمة عن صناعة النفط والغاز في العالم ككل"، ويقدّر الغازات الدفيئة الناتجة عن الحرب في غزة بنحو 118 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون. بصمة كربونية مرتفعة بدوره يقول الخبير في البيئة حمدي حشاد لمنصّة "المشهد"، إنّ الحرب في غزة هي "حرب ضدّ الناس، وحرب ضدّ البيئة، وحرب ضدّ المناخ". ويشير إلى أنّ القصف على غزة سيكون له انعكاسات كبيرة على البيئة في القطاع الذي سيعاني مشاكل عديدة، إذ قد تتسرب الموادّ السامة إلى تربته ومائه، في حين قد يُنذر تحلّل الجثث بأوبئة صحية. ويشدد على أنه لا يمكن حسابيًا تدقيق حجم الآثار السلبية للقصف على المناخ في المنطقة، لكنه يلفت إلى أنّ ما تستهلكه دبّابة واحدة على سبيل المثال من الوقود، يعادل ما تستهلكه عشرات السيّارات. ويتابع قائلًا "البصمة الكربونية للحرب ستكون مرتفعة جدًا، ما سيكون له أثر مناخيّ سلبيّ في المنطقة ككل". وتُعتبر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من بين المناطق التي تعيش تحت وطأة تأثير التغييرات المناخية، رغم أنها ليست من الدول الملوّثة. ويزيد حشاد أنّ الحرب في غزة وككل الحروب ستؤثر على أنشطة المنظمات المدافعة عن البيئة والمناخ التي يتراجع الدعم المخصص لها على حساب الدعم المقدم للحروب. أسلحة محظورة يؤكد العميد السابق بالجيش التونسي مختار بن نصر، أنّ الدراسات حول تأثير الحروب بشكل عام على المناخ تكاد تكون منعدمة على الرغم من أهمية هذا الموضوع وفق تقديره. ويقول لمنصّة "المشهد" إنّ "إسرائيل استعملت الفوسفور الأبيض، وهو من الأسلحة المحرّمة دوليًا بسبب خطورته على صحة الإنسان وعلى المناخ بشكل عام"، موضحًا أنّ "هذا النوع من الأسلحة سريع الاحتراق ويخلّف انبعاثات كبيرة ولا يمكن إطفاؤه بسهولة، وبالتالي فإنّ ضرره سيكون كبيرًا على المناخ في منطقة الشرق الأوسط مستقبلًا". وعلى الرغم من نفي الجيش الإسرائيلي لاستخدام الفوسفور الأبيض في غزة، إلّا أنّ منظمات دولية أكدت أنّ لديها أدلة على استخدامه في غزة وجنوب لبنان.كوب 28وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإنّ الفوسفور الأبيض يشتعل تلقائيًا عند درجات حرارة تزيد عن 30 درجة مئوية، ويستمر في الاحتراق حتى يتأكسد بالكامل أو يحرم من الأكسجين، وينتج عن حرقه دخان كثيف يحتوي على خليط من أكاسيد الفوسفور. ويؤكد بن نصر أنه "حارق والغازات المنبعثة منه شديدة الأذى". ويشدّد كل من بوزيان وحشاد وبن نصر على ضرورة وقف الحرب في غزة حماية للأرواح والطبيعة.ويقول بوزيان إنّ "المطلوب من قمة كوب 28، أن تجعل الحرب في غزة آخر الحروب على المناخ"، ويرى أنّ ذلك يمر حتمًا عبر "عمل المشاركين فيها على الوقف الفوريّ للأعمال التدميرية في القطاع، من أجل إنقاذ الكوكب من الاحتباس الحراري". (المشهد)