تتجهز الولايات التركية كافة لانتخابات البلدية المزمع إجراؤها غداً، في منافسة جديدة بين السلطة المنتشية بالانتصار الأخير في الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة في مايو 2023، والمعارضة التي لم تضمّد جراح خسارتها بعد.تتميز الانتخابات المحلية في تركيا عن الكثير من الدول بأجوائها المشابهة للانتخابات العامة بالنسبة للمدن الكبرى، وعندما يكون الحديث عن إسطنبول ذات الكثافة السكانية الأعلى في تركيا والثقل الاقتصادي والسياحي والثقافي الأكبر في عموم البلاد، فإن الأجواء الانتخابية التي تعيشها الولاية تكاد تكون شبيهة بالعام الماضي. وعلى الرغم من فوز إمام أوغلو ببلدية إسطنبول لعام 2019 وبفارق كبير في جولة الإعادة على منافسه مرشّح السلطة بن علي يلدرم، الذي تقلّد مناصب حساسة في حكومات إردوغان كرئيس للوزراء ورئيس للبرلمان، إلّا أن حزب العدالة والتنمية بقي محتفظاً بـ24 بلدية فرعية من أصل 39 في إسطنبول وبالأغلبية المجلس البلدي لبلدية إسطنبول الكبرى، ما صعّب من عمل إمام أوغلو.معركة إسطنبول الانتخابية الأشد وطأة يسعى حزب "العدالة والتنمية" إلى تثبيت الفوز الذي حققه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. في المقابل، تريد المعارضة المحافظة على مركز ثقل البلاد (إسطنبول)، وعدم إعادتها لإردوغان، وهي التي ظفرت بها بعد ربع قرن. وعلى الرغم من أن انتخابات البلدية بشكل عام مرتبطة بالأمور الخدمية المحلية، إلا أن بلدية إسطنبول تتجاوز ذلك، حيث مثّلت البوابة التي دخل منها إردوغان عالم السياسية، وهو الذي قال عنها قبل أعوام عبارته الشهيرة "من فاز بإسطنبول فاز بتركيا". ولعل عدم اتفاق المعارضة على مرشح واحد كما في عام 2019، العامل الأهم الذي يمكن أن يؤثر على قدرة الشعب الجمهوري الفوز بإسطنبول من جديد، حيث يدخل ثاني وثالث أكبر أحزاب المعارضة (المساواة وديمقراطية الشعوب والجيد) بمرشحيهم. ابتعد مرشح الشعب الجمهوري إمام أوغلو عن الخطاب الذي اعتمدته المعارضة في الانتخابات الرئاسية، والقائم على معاداة اللاجئين في المقام الأول، واستخدم خطاباً أوسع، مع التشديد على أسس العلمانية والجمهورية وقوة القانون وإحقاق العدالة. وعلى نحو مشابه ابتعدت الحكومة التركية بشكل كامل عن ملف اللاجئين، وركّزت اهتمامها على ملف إعادة الإعمار، ومشاريع التمدّن والبيئات الحضرية فائقة التنمية وفي ظل توقّعات بتعرض اسطنبول إلى زلزال مدمّر خلال السنوات القادمة.ولتحقيق هذا الغرض، رشح حزب العدالة والتنمية مراد كوروم لرئاسة بلدية إسطنبول، المختص في مجال "التحول الحضري"، الاختصاص الأهم في مواجهة الزلازل، والذي تم انتخابه نائباً في البرلمان التركي عن حزب العدالة والتنمية في إسطنبول في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.حسابات الربح والخسارة وفقًا لنتائج استطلاع مركز "AREA" شمل 3038 شخصاً في جميع مناطق إسطنبول بين 23 و26 مارس 2024، سيحصل مرشّح المعارضة رئيس البلدية الحالي أكرم إمام أوغلو على نسبة 42.8% من الأصوات مقابل 40% لمرشّح حزب العدالة والتنمية مراد كوروم. فيما ترتفع النسبة في استطلاعات مراكز متقدّمة أخرى مثل "ميتروبول" و"سونار" لصالح إمام أوغلو إلى نحو 7%. وإن كانت السلطة ممثلة "بالعدالة والتنمية" والمعارضة بحزب "الشعب الجمهوري" هما الفئتين المتصدرتين للمشهد الانتخابي في إسطنبول، فإن ما يميز هذه الانتخابات عن سابقتها، بأن "فئة المترددين" تبدو الكتلة الثالثة عدداً دون باقي الأحزاب، إذ تفيد استطلاعات الرأي إلى تجاوز نسبتهم 15% بالحد الأدنى، وهو رقم كبير جداً قبل 24 ساعة من فتح صناديق الاقتراع.حماس إردوغانوحول وضع إردوغان المتردد في إسطنبول يقول المحلل السياسي التركي علي كمال إرديم إلى "المشهد" إنه "بعد الانتخابات الأخيرة ساءت الأوضاع الاقتصادية أكثر خلال السنة الأخيرة، وهذا الوضع يساعد المعارضة في تحقيق نتائج أفضل من الانتخابات العامة، فلم يعد بيد السلطة المال الكافي لتدوير اللعبة إلى ما بعد الانتخابات، أو إعطاء وعود مالية، وحتى حماس إردوغان بالفوز يبدو متراجعاً مقارنة مع الانتخابات الماضية". أما في ضفة المعارضة، فيعتقد إرديم أن "فوز إمام أوغلو بفارق كبير برئاسة بلدية إسطنبول سيزيد من ثقله وموقعه السياسي، وفي حال تحقيق حزب الشعب الجمهوري فوزاً كبيراً على مستوى البلاد فإن موقع رئيس الحزب الجديد سيقوى، فيما أن فشل كليها سيمهّد الطريق أمام عودة رئيس الحزب السابق إلى المشهد السياسي".ونافس رئيس حزب الشعب الجمهوري السابق كمال كليجدار أوغلو الرئيس رجب طيب إردوغان في الانتخابات الرئاسية الماضية ممثلاً لمرشح المعارضة التوافقي، لكنه فشل في اقصاء الأخير عن السلطة، على الرغم من تردّي الأوضاع الاقتصادية في البلاد والمشاكل الخاصة بالحريات والحقوق والعدالة وغيرها. وحمّلت رئيسة الحزب الجيد ميرال أكشينار، شريك حزب "الشعب الجمهوري" في "تحالف الأمّة"، الزعيم كليجدار أوغلو "مسؤولية تعنّته بالترشح بدلا من أكرم إمام أوغلو والتسبب في تفويت المعارضة الفرصة السانحة للتخلص من أردوغان" وهو ما أدّى إلى إقصاء كليجدار أوغلو عن رئاسة المعارضة الأم، كما وأنّه تسبب في فض الشراكة السياسية وانهيار تحالف الأمة.تقدّم إمام أوغلومن جهته، يقول الكاتب والصحفي التركي جاغلار تيكين إلى منصة "المشهد" إن "استطلاعات الرأي تظهر إمام أوغلو في المقدّمة بفارق نسبة 3-4% فقط وهي نسبة تكاد تكون مساوية لنسب الخطأ في مثل هذه الاستطلاعات، لكن يبدو من خلال متابعتي على الأرض أنه يحظى بشعبية جيدة حتى في المناطق التي تعرف بميولها للعدالة والتنمية ضمن أحياء إسطنبول. مع ذلك من المبكر تحديد الفائز في منافسة شرسة كالتي تشهدها المدينة اليوم".ويلفت تيكين إلى أن انتخابات إسطنبول اليوم في ظل تشتت تحالف المعارضة باتت "أقرب إلى منافسة مكشوفة بين مؤيدي تيار الجمهورية وتيار المحافظين الدينيين، لذا وإن كان حزب الشعب الجمهوري هو الذي يخوض المنافسة ضد العدالة والتنمية شكلاً، إلا أن مناصري الأحزاب السياسية الأخرى ترى في هذه المنافسة سباقاً على المبادئ". وبحسب تيكين فإن "هذا يصب في مصلحة مرشّح المعارضة إمام أوغلو ويمنحه فرصة الحصول على أصوات ناخبي أحزاب ديم والجيد وحتى جزء من أنصار العدالة والتنمية وحليفته الحركة القومية المؤيدين لتيار الجمهورية".رفع معنويات الناخبين ويشرح إرديم المشهد العام للانتخابات البلدية قائلا: "كان الحماس الشعبي في انتخابات 2019 أعلى، وكان هناك إيمان بأن خسارة إردوغان لبلديات المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير ستؤدي إلى إقصائه عن السلطة، ولكن تبيّن عدم دقة هذه المقولة، ما أثّر على معنويات المعارضة". مضيفاً "الشارع أكثر سكينة اليوم، ويبدو أقرب إلى اللامبالاة، وبالطبع تكرر العملية الانتخابية أرهقت الناخبين أيضاً، لكن بما أن للانتخابات في تركيا تأثير اجتماعي كبير مقارنة مع بلدان أخرى، ومع الأخذ بعين الاعتبار المبالغ المالية الكبيرة التي تصرفها السلطة والمعارضة خلال حملاتها الانتخابية مقارنة بالأعوام السابقة، فإن للانتخابات حضورها الشعبي إلى جانب الإداري والحكومي". تحاول المعارضة التركية رفع معنويّات ناخبيها اليائسين من الخسارة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة في مايو 2023، من خلال التلميح بشكل غير مباشر إلى أن ربح المعارضة للبلديات الكبرى في البلاد، وعلى رأسها إسطنبول، قد تجبر إردوغان على خوض انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة.لكن إرديم يستبعد مثل هذه الفرضية، قائلاً "من أجل هذا السيناريو يجب أن يمنى حزب العدالة والتنمية بخسارة جداً كبيرة فتنخفض شعبيته دون 20% مثلاً، وهو احتمال غير وارد، كما أن النظام الرئاسي الحالي لا يمنح فرصة للذهاب لانتخابات مبكرة". وبعيداً عن الحسابات الحزبية فإن أكثر ما يمكن أن تؤثر عليه نتائج الانتخابات المحلية هو ملف تغيير الدستور الذي يحاول الرئيس التركي إجرائه، وذلك من خلال إدخال تعديلات تمكّن من سلطته الرئاسية من جهة، وتمنحه إمكانية خوض منافسة انتخابية جديدة للظفر بالرئاسة للمرة الرابعة. ووفق إرديم أن "خسارة كبيرة لإردوغان ستصعّب من مهمّته لإجراء تعديل دستوري من خلال الاستفتاء الشعبي (كونه يفتقد لعدد المقاعد النيابية اللازمة لتعديله برلمانياً) وبالتالي قد يؤدي إلى تراجع خطابه حول ضرورة كتابة دستور جديد للبلاد ولو لبعض الوقت". فيما يختتم تيكين حديثه إلى "المشهد" قائلا "هناك إحساس بالغبن لدى شريحة من مؤيدي السلطة الذين باتوا يشعرون بأن الحكومة المركزية لم تقدّم لهم الدعم الكافي خلال فترات جائحة كورونا والزلزال، مقابل دعم اجتماعي حصلوا عليها من البلديات الكبرى في اسطنبول وأنقرة مثلاً بغض النظر عن انتمائهم الحزبي، وهذا يشجّعهم على التصويت لمعارضيهم في التوجّه السياسي على قاعدة كفاءة الأداء والخدمات". (المشهد)