جددّ الهجوم المسلح على كنيسة كاثوليكيّة في حي "ساريير" في إسطنبول المخاوف الأمنية في تركيا بشكل عام، والأقلّيات بشكل خاص، في بلد شهد فترات طويلة من "العنف الديني" في تاريخه.واعتادت تركيا على الأحداث الإرهابية السابقة لاستحقاقات انتخابيّة حساسة، لكن خطورة الهجوم الأخير تتجاوز الفرضية السابقة في كونها متزامنة مع حرب غزة التي "أدّت إلى تأجيج الأعمال العدائية".موجة جديدة من العنف ضد الأقلّياتيخشى مراد مخجي، المقيم في إسطنبول أن يكون هجوم أمس على كنيسة سانتا ماريا الكاثوليكية الإيطالية "مقدّمة لموجة من العنف التي تهدد الأقلّيات التركية من المسيحيين واليهود وحتى العلويين والشيعة".ويقول مخجي السياسي والكاتب التركي البالغ من العمر 43 عاماً، في حديثه مع منصّة "المشهد" إن "هناك خطاب كراهية متصاعداا ضد الأقلّيات في تركيا"، لقد تحوّل حضور قدّاس الأحد في الكنيسة إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر، الناس يشعرون بالخوف، ومن المؤكد أن عدد الوافدين إلى قدّاس الأحد القادم سيتناقص كثيراً، رغم انتشار الشرطة أمام كافة الكنائس ودور العبادة الأخرى في إسطنبول غداة الحادثة".العنف يولّد العنففي حزيران عام 2010 قتل نائب أسقف الأناضول الرسولي للكنيسة الكاثوليكية، رجل الدين الإيطالي المونسنيور لويجي بادوفيس، نحراً بالسكين في حديقة منزله، وذلك بعد 5 سنوات من جريمة قتل كاهن كنيسة سانتا ماريا الكاثوليكية أندريا سانتورو في طرابزون في فبراير 2005.وفي أبريل 2007، قُتل المواطن الألماني تيلمان إيكهارت جيسكي، والتركيان نجاتي أيدين، وأوغور يوكسل، العاملان في دار نشر لكتب دينية مسيحية، وذلك بنحر رقابهم أيضاً.وبعد حادثة الكنيسة الكاثوليكية بالأمس، بدأت الأصوات في تركيا تتعالى محذّرة من موجة العنف التي تضرب المنطقة برمّتها، والتي "ستكون لها آثارها في تركيا أيضاً، فالعنف يولّد العنف، وهذا سار بالنسبة الجميع دون استثناء"، بحسب مخجي.ويرى الباحث في شؤون الإرهاب أحمد سلطان، في حوار مع منصّة "المشهد" أن "لهجوم إسطنبول علاقة مع تصاعد خطاب الكراهية في العالم على خلفية حرب غزة بلا شك، وهذا ما نقرؤه في ثنايا بيان التنظيم الذي تبنّى فيه العملية وقال إنها تأتي استجابة لدعوة "أبو حذيفة الأنصاري" المتحدّث باسمه، الذي دعا إلى شن هجمات ضد المسيحيين واليهود في جميع أنحاء العالم انتقاماً لما يحدث في قطاع غزة، رغم أنّ التنظيم يتعارض مع "حماس" ويكفّرها".في المقابل، يشرح الخبير الأمني التركي مصطفى بوغورجو لمنصة "المشهد" أنّ "حرب غزّة والأسلاموفوبيا المتصاعد في أميركا وأوروبامن خلال أعمال حرق القرآن الكريم وبث الكراهية ضد المسلمين في الغرب تعد عوامل مساعدة لمثل هذه الهجمات".لكنه يضيف: "يجب ألا ننسى بأن الحادثة ليست فردية، أي لم يقم شخص بارتكاب جريمة على خلفية مشاعره اتّجاه حرب غزة أو الإسلاموفوبيا، بل هي مدبّرة ومخطط لها من قبل تنظيم إرهابي". هدف العملية إعادة الزخم لـ"داعش"ويتّفق كلا الخبيرين سلطان وبوغورجو على الهدف الاستعراضي لتنظيم "داعش" من خلال هذا الهجوم ورسائله.ويرى سلطان أن "الهجوم الأخير هو رسالة تحذير لتركيا، لأن التنظيم كان يتجنّب منذ عام 2016 تنفيذ هجمات في تركيا، باعتبار تواجد العديد من قادته فيها وأيضاً لكونها مركزاً لشبكات توفير السلاح والدعم المالي، حيث إن جزءا كبيرا من الشبكة المالية المسؤولة عن تمويل داعش سواء عبر التبرعات القادمة من أوروبا كانت تأتي إلى تركيا، التي كان فيها سابقاً مكتب ما يعرف "بالفاروق" أحد المكاتب الإقليمية الثمانية لتنظيم داعش حول العالم التي تعمل كقيادات إقليمية ضمن النطاق الجغرافي المحدد لها".ويشير سلطان إلى كون الهجوم رسالة "ردّاً على عمليات الاعتقال التي نفّذتها تركيا مؤخراً وطالت العديد من قيادات التنظيم وموارده المالية، وبالتالي يهدد التنظيم من خلال هذا الهجوم السلطات التركية بأنه سيصعّد في حال استمرار الحملة الأمنية ضدّها".من جهته يلفت بوغورجو أن "التنظيم بعد خسارته لمساحات جغرافية كبيرة يحاول شحذ همم أفراده في الخلايا النائمة في تركيا وخارجها ورفع معنويّاتهم من خلال مثل هذه العملّيات التركية تؤكد احتفاظ التنظيم بقوّته"وأشار إلى أن "مثل هذه التنظيمات بحاجة إلى خلق الأعداء بشكل دائم لإقناع الأشخاص بالانضمام إليه، وهو ما يفعله "داعش" اليوم من خلال توسيع عدد أعدائه وفي الوقت نفسه إرسال رسالة بأنه مستمر في تحقيق هدفه لكسب المزيد من العناصر الجديدة الوافدة من مختلف دول العالم".ويقول سلطان "التنظيم يرسل رسالة إلى العالم بأنه لا يزال باقيا ويتمدد، وهو الشعار الذي قام عليه "داعش"، الذي يريد استقطاب مقاتلين من حول العالم، لذا فهو يدخل في حالة زخم، لذا يريد أن يقول إنه متمسّك وينفذ إيديولوجيات الجهاد المعولم".الجناة الرئيسيون روسي وطاجيكيبعد الحادثة، اعتقلت السلطات التركية المشتبه بهما الرئيسيين في العملية، إضافة إلى 49 آخرين لهم صلة بالهجوم.وقال مصدر من بلدية "ساريير" لمنصّة "المشهد" شريطة عدم الكشف عن هويّته أن "القنصل العام البولندي في إسطنبول كان موجودًا أيضاً داخل الكنيسة عندما وقع الهجوم الذي أدّى إلى مقتل مواطن مسلم يبلغ من العمر 52 عاماً، اعتاد ارتياد الكنيسة خلال قدّاس الأحد، ويصفه أقاربه بأنه كان يعاني مشاكل ذهنية طفيفة".وعلمت منصّة "المشهد" من مصادر أمنية تركية أن المعتقلين هم مواطنون من طاجيكستان وروسيا بالإضافة إلى الأتراك، وأن الجناة هم الطاجيكي "أ.ك." والروسي "د.ت."، وفي حين تم تسليم 23 من المشتبه بهم إلى مركز الهجرة ليتم ترحيلهم، فيما لا يزال 28 مشتبهاً بهم قيد التحقيق في مراكز الشرطة.وعليه، يشرح سلطان أنه "في الفترة الأخيرة شهدت تركيا نشاطاً كبيراً للمجموعات المتطرفة، و"داعش" يعتبر تركيا في العموم ولاية لوجستية بمعنى توفر الدعم والإمداد والمساندة للتنظيم في سوريا والعراق وأفغانستان والكثير من الأسلحة والمواد المستخدمة في المتفجّرات والسيارات المفخخة دخلت إلى سوريا والعراق عبر نقاط من تركيا".من جهته يذكّر بوغورجو بالهجمات الإرهابية التي تعرّضت لها تركيا خلال فترات الانتخابات في السابق، وكانت معظمها من تنفيذ "داعش"، "ونحن اليوم على أعتاب عملية انتخابية جديدة" في نهاية مارس المقبل.وبرأي بوغورجو، عضو لجنة القرار المركزي في "الحزب الديمقراطي" التركي، فإن "الحكومة لا تبدو جادة في مكافحة التنظيمات الأصولية والمرتبطة بالإيديولوجيات الدينية"، متسائلا: "علينا أن تكون أكثر حذراً ودقّة ونجد الإجابات عن أسئلة من قبيل: كيف وصل هؤلاء المتطرفون الأجانب إلى تركيا، هل حصلوا على الجنسية التركية وكيف؟ ومن يقف وراءهم؟ وعلينا الكشف عن الخلايا النائمة".(المشهد)