على الرغم من محاولات أحمد الشرع، الزعيم الفعلي لسوريا اليوم، تقديم صورة معتدلة وطمأنة المجتمع الداخلي والدولي، إلا أن العديد من السوريين متشككون في نوايا وأفعال قائد "هيئة تحرير الشام"، المنبثق عن "جبهة النصرة".بالتزامن، تتعالى الأصوات والمساعي الإقليمية لتفادي انجرار البلاد نحو سيناريوهات أكثر تعقيداً، لناحية نظام الحكم المستقبلي والوضع الأمني على الأرض، مع التركيز على ضرورة عدم تكرار تجارب دول إقليمية مثل ليبيا وأفغانستان وإيران وغيرها. يتّفق معظم المحللين على أن الأشهر القادمة ستكون حاسمة بالنسبة لسوريا لناحية كيفية تعامل القيادة الجديدة مع المشهد السياسي المعقد وما إذا كانت ستفي فعلاً بالوعود المتعلقة بالحقوق والحكم الرشيد، في ظل القلق بين مختلف الجماعات داخل سوريا بشأن الاتجاه المستقبلي للبلاد.تنوع طائفي وعرقيبالأمس، أحرق مسلحون ملثّمون شجرة الميلاد في بلدةِ السقيلبية بريف حماة، ذات التركيبة السكانية المختلطة بين الأقلّيتين: المسيحية والعلوية. وصلت نيران الشجرة وإلى دمشق، حيث شهد حي "باب توما" ذات الغالبية المسيحية في العاصمة السورية تظاهرة احتجاجاً على الحادثة. كما أعلنت "هيئةُ تحرير الشام" أن المعتدين هم من المقاتلين الأجانب متوعّدةً بإنزال أقسى العقوبات بحقهم.بدوره، يشكّك كمال سيدو، مسؤول ملف الشرق الأوسط في جمعية الدفاع عن الشعوب المهددة، في استمرارية الأجواء الحالية التي توصف بالمطمئنة للفئات السورية غير المتناغمة مع فكر "هيئة تحرير الشام". ويدعو سيدو في حديثه مع منصة "المشهد" "جميع المكونات القومية والدينية في سوريا إلى أن تنظم نفسها إدارياً، وخصوصاً المرأة السورية، لأنه لا يمكن الوثوق بوعود الإسلاميين". وتابع "الإسلاميين، وخاصة الموالين لتركيا، لا يؤتمن لوعودهم، وهذه الحركات حاربت في السنوات الماضية من أجل دولة الشريعة الإسلامية لا من أجل الديمقراطية والمساواة في الحقوق بين جميع المكونات، بما فيهم الرجل والمرأة".وأضاف "في قاموس هؤلاء لا يوجد شيء اسمه العدل والمساواة". تعد سوريا موطناً لموزاييك متنوع من الأقليات العرقية والدينية، بما في ذلك العلويون، والمسيحيون، والدروز، والأكراد. ورغم أن غالبية السكان من العرب المسلمين السنة، إلا أن الأيديولوجيا الدينية لهذه الفئة، والتي يتم تعريفها في الكثير من الأحيان تحت مسمى "الإسلام الشامي" ذات النهج الصوفي، يختلف كثيراً عن العقيدة الجهادية السائدة لدى "هيئة تحرير الشام" المنبثقة عن "جبهة النصرة"، كما أن الأقليات السورية لعبت دوراً مهماً في النسيج الاجتماعي للبلاد.سيناريو أفغانستان أو إيرانتتبنّى الهيئة اليوم نهجاً تصالحياً يذكّر بإستراتيجية طالبان في أفغانستان، بهدف الحصول على اعتراف وشرعية دولية، حيث أكّد زعيمها المكنّى بالجولاني سابقا على ضرورة "التعاون السريع والفعّال" لإعادة بناء اقتصاد سوريا والحفاظ على وحدة أراضيها. كما يشدّد الجولاني على أن الأراضي السورية لن تُستخدم كقاعدة لشن هجمات ضد دول أخرى، حتى إسرائيل، في خطوة إستراتيجية لتجنب إثارة التوترات الإقليمية ووضع "هيئة تحرير الشام" وداعميها الإقليميين في موقف إيجابي أمام الأطراف الدولية. يعتقد أسفنديار مير، الخبير البارز في معهد الولايات المتحدة للسلام، أن "هيئة تحرير الشام استفادت من تجاربها ومن خطوات طالبان"، مشيراً إلى أن "الهيئة ومن خلال تبني الموقف السابقة، تسعى إلى تجنب خلق أعداء خارجيين".بالاستناد إلى تغييرات الأنظمة السابقة، يمكن القول بأن زوال القادة المستبدين لا يضمن بالضرورة الاستقرار، ويظهر ذلك بالعواقب التي تلت تغييرات الأنظمة في العراق وليبيا وأفغانستان، حيث أدت التحولات إلى فترات طويلة من عدم الاستقرار والأزمات الإنسانية، ما يمكن اعتباره تحذيراً للحالة الراهنة في سوريا. على الرغم من الرسائل التصالحية، لا تزال هناك مخاوف مستمرة بشأن وجود مقاتلين أجانب متشددين داخل الهيئة. يحذّر بعض المحللين من أن هؤلاء المقاتلين قد ينشقون وينضمون إلى فصائل أكثر تطرفًا، مما قد يقوّض صورة الهيئة المعتدلة ويزيد من زعزعة استقرار المنطقة، في سيناريو شبيه بليبيا أو أفغانستان ما قبل طالبان. رحبت الولايات المتحدة بتصريحات الهيئة لكنها أكدت أن أي اعتراف سيعتمد على أفعالها وسلوكها على الأرض. وبالمثل، صرّح دبلوماسي أوروبي بارز بأن العقوبات لن تُرفع إلا إذا تم تقديم ضمانات بشأن حقوق الإنسان والالتزامات بمكافحة الإرهاب. يعتقد الكثير من المحللين أن ترك واشنطن أفغانستان لحركة طالبان، واستغناء موسكو عن الأسد وسيشجع الحركات الإسلامية المتطرفة في أماكن متفرّقة من المنطقة والعالم على الإطاحة بزعماء آخرين في الدول التي تمارس ضغوط على الحركات الإسلامية داخل حدودها. وقد يزيد التباين بين خطاب "هيئة تحرير الشام" الشامل ونهج طالبان السلطوي من عزلة طالبان دوليًا، خاصة مع تفاقم الأزمة الإنسانية في أفغانستان بسبب سياساتها.أكد الشرع على أهمية التعليم في رؤيته لمستقبل سوريا، مشيراً إلى أن هناك جامعات في إدلب منذ أكثر من 8 سنوات، حيث تشكل النساء أكثر من 60% من إجمالي عدد الطلاب. وتقدّم "هيئة تحرير الشام" نفسها كجماعة تدعو إلى الحكم الشامل، مع وعود بالاعتراف بالتنوع العرقي والديني في سوريا. لكن سيدو، يشير إلى أن جميع الحركات الدينية، في إيران سابقاً، ومن ثم في أفغانستان وحتى في مصر قبل سنوات، وصلت إلى السلطة بهذه الوعود، لكنها بعد ذلك توجّهت نحو سياسات قمعية سواء بحق الأقلّيات أو المرأة وكل ما يخص الحريات والحقوق الفردية". تعكس تصريحات الشعار محاولة للحصول على الشرعية على الساحة الدولية والتزامه برؤية لسوريا تحتضن التعليم والإطار القانوني. ومع ذلك، تشير شكوك السكان إلى أن الطريق المقبل سيكون مليئاً بالتحديات في الوقت الذي يسعى فيه القادة الجدد لإعادة تعريف هوية سوريا بعد الصراع.(المشهد )