استبق وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، زيارة نظيره الأميركي إلى أنقرة بتصريحات خاصة بسوريا متعددة الاتّجاهات بعد صمت تركي لأشهر طويلة، ما أثار استفسارات حول الهدف من تحريك المياه الراكدة في القنوات مع دمشق.على الرغم من تزايد المصالح المشتركة بين الجارين اللدودين، لناحية الوجود الكردي في شمال وشرق سوريا، وملفّات اللاجئين السوريين في تركيا والجهاديين في إدلب، فإن المسافة بين أنقرة ودمشق لا تزال تبدو بعيدة، في ظل فشل محاولات الأصدقاء في تقليص نقاط الخلاف الكثيرة بينهما.الحرب السورية لم تنتهِ بعد في مؤتمر صحفي عد رجل الاستخبارات التركي السابق ووزير الخارجية الحالي هاكان فيدان، أن الأولوية في الملف السوري هو عدم تجدد الصراع بين دمشق والمعارضة في استمرار لمسار أستانا، وعلل ذلك بتفادي وصول المزيد من المهاجرين السوريين إلى تركيا وتهيئة الأجزاء من أجل "نسيان الكراهية والتوجّه للسلام والتسامح". أما النقطة الأهم في تصريحات فيدان، المنخرط في الحرب السورية بشكل مباشر خلال فترة ترؤسه لجهاز المخابرات التركي، فكان تركيزه على مسألة "المنظمات الإرهابية". تعتبر أنقرة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" والمنظّمات والجهات السياسية والمسلّحة الأخرى امتدادات لحزب العمال الكردستاني الذي تصنّفه أنقرة والعديد من حلفائها ضمن قوائم الإرهاب. أسفرت الحرب السورية المستمرة منذ 13 عاماً إلى تقسيم البلاد بين مناطق سيطرة الحكومة السورية وأخرى تحت سيطرة "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) وشريط تحت الحماية التركية تدار من قبل مجموعات مسلّحة تنضوي تحت مسمى "الجيش الوطني" الذي أسسته تركيا، بالإضافة إلى مناطق سيطرة الإدارة الذاتية المدعومة أميركياً. وعلى الرغم من تراجع حدة الاشتباكات، فإن الحرب السورية لم تنته بعد. وتعتبر دمشق أن إيقاف أنقرة دعمها للمجموعات المسلّحة المسيطرة على الشمال سواء تلك المنضوية تحت مظلة "الجيش الوطني" أم الأخرى التي تدور في فلك هيئة تحرير الشام كفيلة بإنهاء السيطرة الميدانية لهذه المجموعات.تصريحات فيدان تقرأ ضمن الأجندة التركية الداخلية ترى الصحفية التركية الخبيرة بملف الشرق الأوسط هدية ليفينت، أن تصريحات فيدان يمكن قراءتها من خلال 3 مسارات مختلفة. وتشرح ليفينت العاملة في العديد من دول المنطقة أن "ملف اللاجئين السوريين هو جزء أساسي من السياسة الداخلية التركية، ومشكلة كبيرة تواجهها أنقرة في السنوات الأخيرة، لذلك يمكن تفسير تصريحات فيدان الأخيرة ضمن أجندة البلاد الداخلية". وأضافت "من المهم إعطاء رسائل للناخب التركي قبيل الانتخابات المحلّية (في نهاية مارس المقبل) بأن الحكومة تعمل على تأسيس مصالحة في سوريا تكون منطلقاً لعودة اللاجئين". وحرصت أنقرة قبيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو الفائت على إرسال رسائل داخلية مشابهة، وأسفرت مساعيها إلى عقد اجتماع بين وزراء خارجية سوريا وتركيا وروسيا وإيران في موسكو في 10 مايو (قبل الانتخابات بأيام). بالمقابل، يعتقد الكاتب والمحلل السياسي السوري أحمد الدرزي، أن "حالة الاستثمار في اللاجئين السوريين قد انحسرت بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، وإثبات الرئيس رجب طيب إردوغان بأنه أقوى من كل معارضيه، رغم التغييرات السياسية التي حصلت في قيادات وتسميات هذه الأحزاب".ماذا عن رسائل أنقرة الخارجية؟ويشرح الدرزي أن "دوافع وزير الخارجية متعددة اجتمعت مع بعضها البعض، وأهم ما فيها أنها حالة استباقية للمرحلة المقبلة، بعد الزلزال الجيوسياسي الأكبر في تاريخ المنطقة إثر عملية طوفان الأقصى". ويعتبر الدرزي أن "7 أكتوبر نقل منطقة غرب آسيا إلى واقع جديد، والوضع الميداني الثابت قد كُسر، ولابد من الهدنة الطويلة بعنوان الاستقرار، الذي لا يمكن أن يتحقق باستمرار سوريا كمركز للفوضى المنظمة". تشير التحليلات إلى مصلحة تركية في الحفاظ على الوضع الراهن في سوريا على الأقل وسط تصاعد التوترات في المنطقة، وخاصة لجهة الحرص على منع النشاط الإرهابي على الحدود السورية-التركية. شدد فيدان على أنشطة بلاده "الدبلوماسية والاستخباراتية والعسكرية المكثفة لضمان بقاء القضايا متوازنة وحفاظ الأطراف على مواقفها". ووفق ليفينت فإن "فيدان يهدف من خلال تصريحاته أيضاً إلى توجيه رسالة داخلية وخارجية مفادها بأن تركيا لا تزال فاعلة في الملف السوري وصاحبة كلمة، وقادرة على التأثير في أهم القضايا الخلافية في المسألة السورية المعقّدة".الكرد القاسم المشترك بين دمشق وأنقرة تأمل أنقرة انخراط دمشق في حربها ضد وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية، بالتزامن مع تسريع عملية التغيير الديموغرافي على الحدود المشتركة من خلال توطين جزء كبير من اللاجئين السوريين في هذه المناطق المعروفة بكثافتها السكانية الكردية. لكن، أولويات دمشق تختلف عن جارتها. ترى دمشق في الوجود المسلّح في إدلب ومناطق سيطرة الحكومة التركية الخطر الأكبر، وتربط تطبيع العلاقات بإيقاف دعم تركيا لها، وسحب جيشها من الأراضي السورية. ويرى الدرزي أن تصريحات فيدان "لا تخلو من رسائل ضاغطة على الأميركيين المربكين في أوكرانيا وفلسطين وهم الذين يبحثون عن حلول لأزماتهم فيها". وعد أن "هذه طبيعة السياسات التركية منذ عام 2016 بتوسيع هوامش الدور الإقليمي باستغلال الصراع الدولي، وحاجة كل الأطراف لها، وهم يقولون للجميع أننا حاضرون وقادرون على تعطيل أي حلول إذا لم يكن لنا الدور الإقليمي الأبرز في المرحلة المقبلة". تسعى أنقرة إلى استثمار ثقلها في الملف الفلسطيني ودورها في دخول السويد في حلف الشمال الأطلسي ومقايضتها مع موافقة أميركية على توسيع استهدافها للقوى الكردية في شمال وشرق سوريا، بالإضافة إلى إقناع واشنطن بصفقة مقاتلات إف 16. وتدرك أنقرة أن وجود توافق مع دمشق وحلفائها في موسكو وطهران إزاء مسألة شمال وشرق سوريا يزيد من الضغوطات على أميركا ووجودها في المنطقة، وبالتالي فإن التطبيع مع دمشق من بوابة "الخطر الكردي المشترك" والتلويح بهذه الورقة يقوّي من موقعها على طاولة التفاوض مع واشنطن. ويتّفق كل من الدرزي وليفينت على أن "تحقيق الرغبة التركية منوط باللاعبين الإقليميين والدوليين كافة"، حيث يرى الدرزي أنه "لا يمكن أن تحقق أنقرة أهدافها المعلنة إلا بالانتقال من حالة التأرجح بين الغرب والشرق، بالاصطفاف الواضح مع القوى الآسيوية الناهضة، بالإضافة للدور العربي المطلوب روسيا وصينياً، أو في حال توصل القوى الإقليمية والدولية لصيغة جديدة تتناسب مع مجمل تداعيات 7 أكتوبر وما بعده". (المشهد)