يُعتبر الاتحاد الأوروبي واحدا من أكبر التكتلات السياسية والاقتصادية في العالم، مكونا من 27 دولة عضو، كنموذج عالمي يحتذى به من ناحية الوحدة والإنجازات والتأثيرات التي استطاع تحقيقها. لكن اليوم، وكونه جزء مهم من العالم، يواجه الاتحاد الأوروبي أزمات عديدة، تؤثر بشكل مباشر على وحدته ومكانته على المسرح العالمي، ما يَفرض على الدول الأعضاء بذل جهد مكثف والتعاون لإيجاد مخارج للأزمات التي تواجههم، وذلك للحفاظ على ديمومة الوحدة فيما بينهم من جهة، و للحفاظ على مكانة الاتحاد العالمية من جهة ثانية. ولعل أبرز التحديات التي واجهها ولا يزال يواجهها الاتحاد هي الهجرة، يضاف إلى ذلك خروج بريطانيا من الاتحاد (بريكست)، وتنامي القوى الشعبوية في بعض الدول الأعضاء، والمخاوف التي تبعتها حول خروج أعضاء آخرين، كذلك عانى الاتحاد كغيره من الدول من التبعات الاقتصادية لفيروس كورونا، ونهاية من الحرب الروسية الأوكرانية التي أثرت بشكل مباشر على دول الاتحاد، سواء من ناحية الهجرة، أو من ناحية أزمة الطاقة والغذاء. الهجرة المشكلة الأكبر مع بدء تدفق اللاجئين من دول عدة حول العالم منذ عام 2015 إلى الاتحاد الأوروبي، أُثيرت المخاوف في أروقة السياسية الأوروبية حول الآثار السلبية لاستقبال هذه الأعداد من المهاجرين، في وقت استقبلت فيه أغلب دول الاتحاد المهاجرين، وقدمت لهم المساعدات الإنسانية، ورواتب شهرية، الأمر الذي جذب طالبي اللجوء من بلدان العالم غير المستقرة والتي تعاني من الحروب. تتصدر ألمانيا والمملكة المتحدة والسويد وإيطاليا وفرنسا الصدارة كونهم مقصدا لطالبي اللجوء، وفي بريطانيا على الرغم من خروجها من الاتحاد الأوروبي ارتفع عدد طالبي اللجوء من 42 ألفا في عام 2019 إلى 75 ألفا في عام 2023. لا يوجد سياسة أوروبية موحدة تجاه اللاجئين، حيث انتهجت كل دولة سياساتها الخاصة، وإن كانت قريبة من سياسة جيرانها، على سبيل المثال، بعض الدول الأوروبية تمنح الجنسية للمهاجرين بعد 5 سنوات من حصولهم على الإقامة الدائمة، ومنهم من يمنحها بعد 7 سنوات، كذلك تسمح بعض الدول للمهاجرين بالانخراط الفوري بسوق العمل، فيما يفرض البعض فترة حظر قد تصل إلى عام كامل. نتيجة ذلك، تعتبر الهجرة واحدة من أكبر المشاكل التي واجهها الاتحاد الأوروبي في تاريخه، حتى أنها أكبر من أزمة خروج بريطانيا، أكد ذلك كبير دبلوماسي الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بقوله إن "الهجرة يمكن أن تكون قوة تفكك الاتحاد الأوروبي بسبب الاختلافات الثقافية العميقة بين الدول الأوروبية وعجزها على المدى الطويل عن التوصل إلى سياسة مشتركة". وعزا بوريل ذلك إلى الاختلافات الثقافية والسياسية العميقة داخل الاتحاد الأوروبي، مشيرا إلى أن "الحرب في أوكرانيا لم تؤجج الخلافات الحالية بشأن الهجرة. إنها الحرب السورية، والحرب الليبية، والانقلابات العسكرية في منطقة الساحل الإفريقي".خروج بريطانيا من الاتحاد يعتبر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والذي يشار إليه باختصار "بريكست" واحدا من الأزمات التي واجهت بريطانيا والاتحاد الأوروبي، كونها كانت عضوا أساسيا في الاتحاد، وقوى عظمى على المستوى الدولي، حيث خرجت بريطانيا من الاتحاد في يونيو2021، في عهد رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون. يرى مؤيدو البريكست أنه تم التخلص من مشروع ألماني فرنسي محكوم عليه بالفشل أصابه الركود بينما تتقدم الولايات المتحدة والصين، ويسيطران على العالم. في حين، يرى معارضوه أنه سيضعف دور الغرب وسيؤثر على دور بريطانيا العالمي. لكن اليوم وبعد مرور عامين على الخروج، خرج الآلاف من البريطانيين، في تظاهرات، رافضين لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، ومطالبين في الوقت ذاته الانضمام مجددا إلى التكتل. وبحسب استطلاعات الرأي، فإن 60% من سكان البلاد، و80% من الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما، يؤيدون باستمرار العودة إلى الاتحاد الأوروبي. حول ذلك يعلق منسق العلاقات الألمانية العربية في البرلمان الألماني والمحلل السياسي عبد المسيح الشامي في تصريح إلى "المشهد" أن:عودة بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي صعبة، هناك انفعال شعبي نتيجة الأزمة السياسية والاقتصادية، لأسباب عدة تتعلق بالحرب الأوكرانية وتداعيات فيروس كورونا وغيرها.بالتأكيد لو أن لندن لم تخرج من الاتحاد لكان وضعها أفضل، في وقت أدى خروجها إلى أزمات اقتصادية كبيرة، رافقها تضخم وتراجع بقيمة العملة وبطالة وإفلاس لكثير من الشركات. ولا يعتقد الشامي أن "هناك طرح جدي لعودة بريطانيا إلى الاتحاد، وكذلك لا يوجد إمكانية للعودة، المسألة معقدة جدا، بريطانيا منقسمة وحائرة بين مجموعة مشاريع، إذ أنها لحد كبير تلتزم بالمسار الأميركي الذي لا يتقاطع كثيرا كما كان سابقا مع مستقبل أوروبا. الأوروبيون يشعرون بالخيانة والغدر من البريطانيين، خصوصا وأن البعض ربط "البريكست" بالحرب الأوكرانية في ظل وجود مخططات سابقة للحرب، إذ يرون أن بريطانيا أرادت تجنب أي نتائج سياسة أو اقتصادية أو عسكرية يمكن أن تحدث نتيجة هذه الحرب".يؤيد ذلك المحلل السياسي ناصر زهير في حديث إلى منصة "المشهد" قائلا إن "عودة بريطانيا إلى الاتحاد شبه مستحيلة، فالقرار اُتخذ على أعلى المستويات، وانتهى بأن يكون هناك استقلالية بريطانية. لا يوجد دول تخطط للخروج، لأنهم رأوا التجربة البريطانية، وبالتالي خروج دول أعضاء مسألة صعبة، لكن هناك محاولات لدخول بعض الدول، ويبقى ذلك مرهونا بمدى التزام هذه الدول بمعايير الاتحاد الأوروبي".تفكك الاتحاد الأوروبي؟ منذ تأسيسه مر الاتحاد الأوروبي بأزمات عدة، سارعت من احتمالات انهياره، أبرزها الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. لكن اليوم المشهد يختلف من ناحية تراكم الأزمات في الاتحاد، ما يثير تكهنات حول إمكانية تفككه. لا شك أن تفكك الاتحاد الأوروبي (إذا حصل) سيكون له تبعات وآثار كبيرة، أبرزها انهيار البورصات العالمية المرتبطة بمنطقة اليورو، والمكانية العالمية لأوروبا التي تمتعت فيها طوال السنوات السابقة، إضافة إلى فقدان القرار الأوروبي "الموحد" إلى حد كبير في القضايا العالية.يرى زهير أن "الاتحاد الأوروبي يمر بأصعب حالاته على مستوى استقلالية القرار السياسي والاقتصادي الذي يتبع الولايات المتحدة، وكذلك بسبب القضايا الخلافية التي ستبقى موجودة إلى أن يتم إصلاح مؤسسات الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال ما طرحه المستشار الألماني بضرورة إصلاح المفوضية الأوروبية، وأن يصبح القرار بأغلبية التصويت وليس بالإجماع، أيضا تحديد مدى التزام الدول الأوروبية بقرارات المفوضية". مسألة قبول أعضاء جدد لن يضيف للاتحاد الأوروبي شيئا، بل على العكس سيكون ذلك عبئا جديدا وفقا لزهير، "خصوصا وأن بعض الدول التي يتم الحديث عن إمكانية انضمامها، لا تلتزم بقرارات المفوضية كما تلتزم بقرارات واشنطن".فيما يشرح الشامي أن "وضح الاتحاد الأوروبي حتى الآن متماسك، ولا يوجد أي دلالات تشير إلى التفكك، لكن هذا لا ينفي بشكل أو بآخر الخلافات الكبيرة حول قضايا رئيسية، مثل التمويل، زعامة الاتحاد الأوروبي، حقوق الأعضاء، الخلافات المتعلقة بالسياسة الخارجية، العلاقة مع الولايات المتحدة، هذه الصراعات وغيرها موجودة داخل الاتحاد الأوروبي، ويمكن أي تؤدي إلى التفكك". وبرأي الشامي "قبول أعضاء جدد لا يعتبر خلافيا لدرجة أن يؤدي إلى التفكك، هناك خلاف حول انضمام بعض الدول، وأيضا يوجد رغبة حول توسيع الاتحاد الأوروبي لكن بخلفية سياسة متعلقة بالاستقطابات العالمية، سيما وأن انضمام أعضاء جدد قد يفرض التزامات سياسية ومالية على الاتحاد لا يستطيع الأخير تقديمها في الوقت الراهن".(المشهد)